شىء أقسى وأوجع من الحزن يعتصر قلبى، ليس لأن الانتخابات البرلمانية تم تزويرها بالكامل، وليس لأن المزورين كانوا هذه المرة أكثر تبجحاً وهم يمارسون التزوير علناً ويمنعون الناخبين من دخول اللجان، وليس لأن ضابط شرطة احتجز مستشاراً - عضو اللجنة العامة للانتخابات فى البدرشين - وخطف منه الكارنيه وهو يأمره بصلف واستهانة: «اركن على جنب شوية»! كل هذا مفهوم ومتوقع، ولا يدعو إلى مزيد من الحزن، أو إلى أى نوع من التعاطف مع الذين ارتضوا المهانة لأنفسهم من الأساس، وقبلوا أن يكونوا مجرد ديكور، يمنح شيئاً من الشرعية لعمل إجرامى بحجم تزوير إرادة أمة ومصادرة كامل حقوقها فى اختيار من يمثلها فى البرلمان. كما أننى لا أجد بداخلى أدنى قدر من التعاطف مع الذين «سقطوا» فى الانتخابات، بعد أن استدرجهم الحزب الوطنى وغازلهم بصفقات معلنة وأخرى سرية، وبعد أن استخدمهم فى استكمال الشكل الديمقراطى للانتخابات، ألقى بهم جميعاً عن ظهره، وداس فى بطونهم دون أن يبالى، إنهم يستحقون ما جرى لهم، لأنهم تعاموا - عن قصد - عن المقدمات الواضحة التى كان لابد أن تؤدى إلى هذه النتائج العبثية. ورغم هذا كله فقد اعتصرنى إحساس كامد ومهين، وأنا أراقب عدداً من سيدات بولاق أبوالعلا الفقيرات والطاعنات فى السن، يجلسن عصر يوم الأحد الماضى خلف مجمع محاكم الجلاء فى مواجهة باب لجنة انتخابية، يقف أمامه عدد من الشبان مفتولى العضلات، اتضح أن دورهم الأساسى هو منع الفضوليين والناخبين من دخول اللجنة، ولهذا جلست سيدات بولاق حزينات مكسورات، لأنهن جئن من الصباح الباكر للإدلاء بأصواتهن لأى مرشح يدفع لهن مبلغاً من المال يوفر قوت يوم أو يومين، ولكنهن فوجئن بأن أصواتهن ليست مطلوبة فى هذه الانتخابات.. وأن المرشح الذى جئن من أجله لم يعد يعنيه أن يشترى الصوت بمائة جنيه، بعد أن اكتشف النظام أنه بإمكانه أن يحصل على الأصوات التى يريدها لمرشحيه «ببلاش»! وصباح أمس عاودنى هذا الإحساس المهين وأنا أطالع فى «المصرى اليوم» الموضوع الذى كتبته الزميلة ولاء نبيل، عن مواطن فقير من عزبة «خير الله» اسمه «عبدالعظيم عبدالمؤمن»، استيقظ فجر يوم الانتخابات هو وزوجته، وظل ينتظر هو وآخرون من جيرانه الميكروباصات التى جاءت فى الثامنة صباحاً، وأخذتهم إلى اللجان للإدلاء بأصواتهم مقابل 50 جنيهاً لكل منهم، وبعد 3 ساعات من حبسهم داخل السيارات سمحوا لهم بالنزول والوقوف فى الطابور.. وبعد أن أدلى «عبدالعظيم» بصوته للمرشح «اللى قالوا له عليه» خرج ليأخذ الخمسين جنيهاً من المندوب فلم يعثر عليه، وظل ينتظره 3 ساعات حتى وجده وطلب منه الفلوس، فقال له المندوب «انتظرنى شوية».. وبعد ساعة أخرى شعر «عبدالعظيم» بالدوخة، فعاد إلى منزله فى عزبة خيرالله دون أن يأخذ «لا أبيض ولا أسود»! هؤلاء الفقراء الذين ذهبوا لبيع أصواتهم فأخذها المرشحون ولم يدفعوا لهم شيئاً.. هؤلاء هم الذين حزنت لهم، وأتعذب الآن من أجلهم، وصدقونى إذ أعترف لكم - وأنا فى كامل قواى العقلية - بأننى كنت سأغفر لهؤلاء المرشحين الأجلاف لو أنهم أعطوا جنيهات قليلة لهؤلاء المساكين.. أما أن يمارسوا فيهم أبشع الفسق ودون مقابل، فهذا ما لا يمكن غفرانه أبداً. [email protected]