تحتاج الطرقات إلى مصابيح إنارة، وتحتاج الأمم إلى أبطال قوميين، ونحتاج نحن – البشر العاديين – إلى مثل أعلى ينير لنا الدرب ويشحذ الهمم ويجعلنا نؤمن بأن الحياة ليست مجرد بالوعة قاذورات تزحف فيها الحشرات فى دبيب صامت.. حشرات بشرية تطيع غرائزها البدائية فتنهب وتفسد وتسرق. أقولها بصراحة: زهقت من قراءة صحف المعارضة من كثرة ما يتسرب إلىَّ من روائح (مقرفة) محزنة، ولوهلة قررت أن أفر من هذه العتمة، وأستروح ذكرى رجل من زمان الرحمة، رجل كان يؤدى واجبه على قدر الاستطاعة، يؤديه فى أسرته وعمله وبين أقاربه.. المعدن الأصيل للشعب المصرى الذى لم ينفرط عقده- بفضل هؤلاء وحدهم- - رغم هجمة الفساد المنظمة، إنه أخى المرحوم ياسر الجندى مدرس أمراض النساء بكلية طب طنطا. طفولته كانت عادية جداً، مجرد طفل شقى يفيض بالحيوية، يطارد القطط والسيارات، ويتسلق الأشجار، ولكن أحداً لا يطاوعه قلبه على معاقبة الطفل الجميل جداً ذى الابتسامة الساحرة.. صباه أيضاً لم يكن ينبئ بجوهره الثمين، مجرد شاب جامعى يأخذ الأمور بجدية ويستميت فى دراسة علومه الطبية، ثم كانت اللحظة الفاصلة فى حياته عندما تخرج فى كلية الطب بتفوق، وبدأ العمل كطبيب امتياز فى المستشفى الجامعى ليظهر المعدن الأصيل فى نفسه وروحه، وليعيد اكتشاف نفسه من جديد. فوجئ بالفقر المدقع والمرض المذل فى المستشفى المجانى، فوجد نفسه تذوب رقة وإشفاقاً، وجد طريقه ورسالته، وكرّس حياته كاملة لهذا العمل النبيل. حدث انقلاب شامل فى حياته، ولم يعد يعنيه سوى تخفيف آلام المرضى، وتفانى فى عمله، لا يذهب لبيته إلا مرة كل عدة أيام. ثم تسلم بعدها عمله الجديد كطبيب مقيم فى قسم أمراض النساء والتوليد بالمستشفى الجامعى وتحمل مسؤوليته عن مريضاته، تفانى فى عمله لا ينام لحظة فى نوبتجيته التى تمتد ليومين وأحياناً ثلاثة. إذا وجد تقصيراً من التمريض يقوم بمهامها، لا يأنف أن يحمل حذاء المريضة، وكم شهدته أروقة المستشفى يحمل على كتفه أنبوبة أكسجين ويصعد بها الدرج لاهثاً لأن العامل غير موجود والمريضة تموت. يتبرع بدمه فى حالة وجود أى مريضة نازفة، لدرجة تبرعه بالدم خمس عشرة مرة فى عام واحد ولم يكن – كطبيب - غافلاً أنه يؤذى نفسه ولكن كان يطيش صوابه لحظة أن يرى مريضة نازفة توشك على الموت. وكان بذله للمال لا يوصف، كل ميراثه عن أبيه وراتبه فى رحلة العمر تحول لشراء أدوية الفقراء، وبات يحرّم على نفسه الطعام الجيد أو الثياب اللائقة.. لربع قرن بعد تخرجه لم يذهب يوماً لمصيف أو يتنزه، كانت مشاهد الفقر والمرض تحاصره ولم يكن ليحترم نفسه لو أنه تساهل لحظة.. تحول العنبر المسؤول عنه إلى جنة صغيرة على حسابه الشخصى فابتاع له كل الرفاهيات من ماله ومضى فى طريقه يضىء ليل الآخرين كنجم هادٍ. كان من أصحاب الفكرة الواحدة لم يرحم نفسه ولم يرحمه أحد، لم يتزوج ولم تكن له أى حياة سوى مع المرضى والمراجع الطبية، كان عالماً فى مجاله، تبحّر وتعمق فى تخصصه، فلم يكن لديه شاغل آخر.. وهدفه محدد: تقديم خدمة أفضل مؤمنا أن الطبيب – كالقاضى - يجب ألا يأخذ أجره من المريض وإلا فقد نزاهته، لذلك لم يفتتح عيادة خاصة قط فى حياته ولا دخل جيبه قرش واحد من مريضاته، بل كان يعطى – صحته وحياته وماله - بلا حدود.. تتحول كل مريضة إلى شغله الشاغل حتى يتم الله شفاءها أو يتوفاها الله. كان مشغولاً باستمرار ولم يكن ممكناً أن يستدرجه أحد للحديث عن نفسه أو يدلى بآرائه فى السياسة أو يتحدث عن الكرة، أو يقبل أن يضيع لحظة واحدة فى غير العلم والعمل به.. أو يسمح لشىء بتشتيت انتباهه. ................ على هذا النحو مرت ليالى العمر.. جندياً فى معركة مستمرة، لا تنفك أساريره العابسة إلا مع مريضاته البائسات من قاع المجتمع، يقضى معهن أوقات فراغه القليلة متربعاً بجوارهن على السرير المعدنى الرخيص الأبيض، مستمعاً إلى مشاكلهن البسيطة. وبفعل التعب وسهر الليالى، وإيذاء النفوس الصغيرة له، لم يكن عجيباً أن ينزلق بالتدريج فى هاوية الاكتئاب والإجهاد بعد ركض ربع قرن، خصوصاً أنه كان قليل الحظ فى حياته وتصادفه المشاكل أينما ذهب.. فمرة اكتشف وهو فى عريض الطريق ضياع ملف مريضة فطاش صوابه وعاد أدراجه دون أن يفكر فى النظر أمامه لتصدمه سيارة مسرعة ويقضى شهوراً عديدة يعانى العجز والألم دون أن ينسى- وهو فى غيبوبة الألم- أن يبرئ ساحة من صدمه. ومرات يؤذيه بعض المراهقين وهو فى طريق عودته متأخراً من المستشفى وهو الكريم ابن الكرام، ومرة يتصادف انتحار فتاة أمامه وهو يسير فى الطريق ليتناثر مخها أشلاء على حذائه، وهو الرجل الرقيق الحس المرهف الوجدان، ومرات ومرات يتعرض للاضطهاد والقهر من أساتذة صغار النفوس. حياة كاملة قضاها مجهداً من قلة النوم وإجهاد العمل ودسائس الأشرار، دون زواج أو أبناء أو ترفيه حتى ضاعت نضارة الشباب وبدأت الكهولة المعذبة، وارتسمت ملامح العذاب والاكتئاب والمرض على وجه الفارس النبيل، ليلزم الصمت تماماً، وتبدأ رحلة العزلة فلم يعد هناك أى شعاع نور فى حياته سوى حبه لأطفال العائلة وتكريس أوقات فراغه القليلة لهم. ................. ثم جاء ذلك الصباح الحزين فى الأول من نوفمبر عام 2003 تأخر استيقاظه عن المعتاد ففتحوا الباب عليه فوجدوه منكفئاً على وجهه فى غيبوبة كاملة.. نزيف بالغ فى المخ، وظل فى غيبوبته أسبوعاً كاملاً حتى فاضت روحه الكريمة وقت صلاة الجمعة فى شهر رمضان المبارك. فى هذا الأسبوع حدث الكثير، تذكر الكثيرون– بعد فوات الأوان- - أنهم ظلموه ولم ينصفوه وهو حى، تذكروا أنه كان يحيا بينهم رجل لم يطمع فى دنياهم، وبرغم ذلك شاركوا فى قذفه بالحجارة أو صمتوا على إيذائه. فى أيام غيبوبته السبعة حل سلام روحى عجيب على ملامحه المتعبة، وكأن كل أيام عذابه الماضية لم تحدث أصلاً! إن الألم مهما كان عظيما فإنه ينتهى حين ينتهى، ويبقى الأجر إن شاء الله، كان جميلاً وقد نفض الغبار عن ملامحه المتعبة وعاد إلى رونقه وكأن المعركة لم تحدث أصلاً.. كنت أتأمله فأشعر وكأن كل آلام حياته لم تحدث على الإطلاقً. مات الرجل وبموته نقص الجمال فى الأرض، وذهب إنسان فهم الدين على معناه الصحيح، عمل بإخلاص ورحمة بالمرضى والضعفاء. اللهم ارحم عبدك ياسر الجندى وتقبله فى الصالحين.