فى ذلك الشارع اللندنىّ الذى أصبح وطنا لبعض الجاليات العربية لا تكاد ترى محلا أو مقهى أو وجها غير عربىّ، ورائحة (الشيشة) بكلّ نكهاتها تعبق المكان، والشارع الذى كان قبل زمن يلفّه السكون فى السابعة مساء صار مدمن سهر حتّى الفجر. توجهت بالأمس لإحدى صيدلياته عامدة، لوجود عرب يسهلون علىّ شرح مصطلح دوائى، وإذا بسيدة مصرية تسأل الصيدلى عن دواء لاحتقان (بلعوم) ابنتها، فأجابها صاحب الصيدلية بانفعال إن كلمة (الاحتقان) خطأ كبير لا يحب سماعه. فما كان منها إلا أن طلبت منه بهدوء مهذب أىّ دواء مفيد تحت أى اسم مقبول، ليفاجئنا بردّ فعل متعالٍ يؤكد فيه أنه طبيب وليس صيدلياً، وهذه صيدلية وليست محل عطارة!! وخرج وهو يتمتم بعبارات مبهمة. لأسأل مدير الصيدلية الذى هو ابنه عن سبب غضب والده، فأجابنى بالإنجليزية حتى إذا اعترضت عن عدم تحدّثه العربية كان ردّه أنه يحتقر اللغة العربية خاصة لهجة بلده، وأنه لولا أن معظم الزبائن عرب لما تعامل مع عربىّ. أخرستنى الدهشة واشتريت ما أريد وخرجت يحدونى الذهول من كمّ ما يحمله الشاب من كره لبلده، وتساءلت: أهكذا هو الكفر بالولاء لبلاد لم تعد له فيها فسحة أمان أو سكن أو قريب أو حبيب؟! أىّ مقت هذا للوطن وأىّ احتقار فجّ؟! كان ذلك هو التحليل الأقرب لهذه الشريحة من مجموعة شرائح مختلفة فى بلاد الشتات التى لم أجد فيها ممن التقيتهم من يعرف موعد الإفطار سوى دكتور سائق (تاكسى) كان يعمل أستاذا فى إحدى جامعات العراق مثل الكثير من أصحاب الشهادات العليا من ضحايا التهجير المسيّس، والبحث عن أمان وحماية لأسرهم من خطف وقتل، لتضطرهم الحاجة إلى مزاولة أىّ مهنة تحفظ ماء الوجه فى الغربة. وتحمّل كربة الاغتراب وسلبياته، بينما بلاد الحضارة تخضع لخطة توطين طائفية من غير أبناء البلد، وضعها النظام لسحق الهوية الأصلية بأقدام تهجير أُسَرٍ تتقلب بين مطرقة دين وقيم، وسندان تغريب، وبين قدوة فقدت صلاحيتها تحت ركام أعوام الغربة، وتقاليد ولغة وتراث جرفتها تيارات حرية مبتذلة وقوانين تنوء بحملها أكتاف الآباء. شرائح نظرتها دمعة خلف هدبىّ كبرياء. وقلوب تخفق لهفة لرنين هاتف، وطرقة باب تحمل طيف حبيب فى يوم عيد. وعجوز مغتربة تعدّ واحدة من كثير، فقدت زوجها وولديها فى مهرجان انفجار ديمقراطى وهاجرت بناتها بصحبة الأزواج، كلٌ فى بلد، ولم يبق لها إلا جارات يتناوبن على خدمتها، وأمل يخايلها فى لقاء الأحباب يوم عيد. ويرحل عيد وآخر يأتى والكل ينتظر بزوغ فجر، وزلزلة عدل تدكّ رؤوس الغيلان، ونفوسهم الشرهة وكراسيهم التى يدورون حولها دون التفاتة حقّ لبلد صار نهبا لأغراب، بينما أبناؤه يتأرجحون على كفّ مجهول.. عيد يجىء، ورحم يتقلص، وحبل وصل يهترئ، وذكريات تئن، وقلوب تبتهل إلى الله طالبة كشف غمّة وعودة حقوق إلى نصابها ومهاجرين إلى أعشاشهم وبسمة عيد إلى الشفاه.. اللهم استجب فلا يعلم المعاناة إلا أنت.. ولا يعرف الشوق إلا مَن يكابده ولا الصبابة إلّا مَن يعانيها إليك.. إلى من تحمّل عيوبى. وتصدّق علىّ بابتسامة. ووهبنى عفوا. وشرّع لى بوابة وده. وهمس لى بنصيحة سرا. وصدقنى ولم يصدّقنى رياء..وأبكانى خوفا وتوبة.. وأضاء لى قنديلا فى ظلمة.. وأنصفنى من ظلم عادٍ، وملّكنى نفسه لمكرمة ولم يجحدنى. وسترنى ولم يفضحنى. وغمرنى دفئا فى برد غربة. وكان لى سيفا وحرفا. إلى كل هؤلاء.. (عيدكم مبارك وكل عام وأنتم بخير).