رغم أن تدخين الشيشة يضرب بجذوره في التاريخ المصري ، وأصبح شكلها مألوفا ضمن يوميات المصريين ، إلا أن ثمة صورة غير مرغوبة لهذه الأداة في أذهان غالبية الناس بطبقاتهم المختلفة ، وحتى بين من يتعاطونها ، فهم يقرون من داخلهم بأنها من غير لائقة اجتماعيا ، غير أنهم يسوغون تعاطيها بمبررات مختلفة ما بين التعود عليها ، وتفريغ للهموم ، والتسلية ، وقتل الفراغ ...الخ. ومبعث الرفض للشيشة ليس لمجرد أن التدخين مضر بالصحة ، أو أنه حتى حرام شرعا كما تقر فتوى مصرية ، ولكن لأنه ارتبط تعاطيها في مصر بفئات دنيا على المستوى المجتمعي أكسبتها تلك الصورة السلبية ، فظل الناس يعتبرون حتى وقت قريب ، كل من يدخن الشيشة على المقاهي هو من فئة العاطلين ، أو المنفلتين اجتماعيا الذين يتعاطون المخدرات في الزوايا الصغيرة التي يتجمع فيها بعض الخارجين على القانون ، وتسمى "بالغرز". ولعل هذه الصورة الذهنية التي شاعت عن الشيشة منذ بداية القرن العشرين ساهمت في انحسار تعاطيها بعد ذلك في فئات معينة ترتاد المقاهي مثل الحرفيين الذين كانت الشيشة هي بمثابة " أداة المزاج والتسلية " ، حينما يلتقون ببعضهم البعض على المقاهي للبحث عن عمل أو انتظار تاجر يريد عمال يومية، كما امتدت في هذه الفترة لبعض المنازل ، حيث جلب المصريين الشيشة إلى بيوتهم ، وذلك خوفا من الوقوع تحت طائلة تلك الصورة الذهنية أو لزيادة الاستمتاع بالجو الأسري ، خاصة أن الزوجات كن يعددن الشيشة ، ويشاركن أزوجهن في بعض الأنفاس كدليل على المودة بينهم. ومع قيام ثورة يوليو بإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى في عقدي الخمسينيات والستينات ، فإن نظرة المجتمع لارتباط الشيشة بفئات دنيا وعاطلة تعمقت بشكل أكبر ، حيث أفرزت هذه الطبقة فئات ومهن مثل " الأطباء ، والمدرسين وغيرهم "، لديهم قيم محافظة ومعتدلة دينيا ترى أن تعاطي الشيشة من قبيل " العيب "، ويهز صورة الشخص في محيطه الاجتماعي. الانفتاح ..والشيشة غير أن الانفتاح الاقتصادي خاصة في النصف الثاني من السبعينات ، واكبه تغول للثقافة الاستهلاكية ، والتي نالت بدورها من القيم المحافظة للطبقة الوسطى التي بدأت أحوالها تتدهور اقتصاديا ، في مقابل ظهور فئات من الحرفيين( كالسباكين وغيرهم ) الذين واجهوا هذه القيم المحافظة ، عبر إظهار قوتهم المالية على حساب القوة التعليمية لأبناء الطبقة الوسطى، وانتشلت تلك الفئة من الحرفيين الشيشة معها لتخرجها من انحصارها كصورة ذهنية لدي المصريين في أوساط العاطلين. أيضا فإن متغيرا أخر بدا مهما في هذه الفترة ، وأفسح المجال لتدخين الشيشة وهو أن عددا لا بأس به من المهنيين ( الأطباء والمدرسين ..) وأيضا( العمال ) سافر إلى الخليج في وقت الفورة النفطية ، ليكون فوائض نقدية أدت لظهور "العقلية الريعية" القائمة على الكسب السريع والانفصام بين الجهد والعائد ، كما يسميها الدكتور محمود عبد الفضيل في كتابه بعنوان" من دفتر أحوال الاقتصاد المصري". هذه العقلية الريعية التي انتابت قيم بعض أبناء الطبقة الوسطى القادمين من الخليج أدت بدورها إلى زيادة مشروعات المقاهي في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات على اعتبار أنها مرتفعة العوائد وقليلة الجهد، كما أنها لا تتطلب أي خبرة استثمارية ، وإنما خبرة استهلاكية لأنها لا صنع أية قيم مضافة حقيقة للمجتمع. وبالطبع فهذه الزيادة في مشروعات المقاهي التي وصفها البعض بأنها أصبحت أشبه "بالمشروع القومي للمصريين"، حيث لا يكاد يخلو منها حارة أو شارع ، أدت إلى زيادة المتعاطين للشيشة ، لأنه بتكرار الجلوس على المقهى ، يحدث للمرتادين حالة يسميها علماء النفس بالتماهي مع بعضهم البعض ، والاندماج مع قيم المكان الجالسين فيها ، فكثيرا مما جلسوا على المقاهي بدءوا غير مدخنين ، ثم أصبحوا محترفين في تعاطي الشيشة. وخلف سريان العقلية الريعية في المجتمع المصري ، تدنيا لقيمة مفهوم العمل المنتج ، حيث أصبح معظم الأفراد يرون أن العمل يكون على مقدار ما يدفع من مقابل مادي، ومن هنا بدا هناك إقبال على الوظائف التي تقع في نطاق السمسرة والوساطة التجارية ، لقد أصبح المجتمع يعاني من "عطاء فعلي متدن" كما يقول د. نادر فرجاني في أحد دراساته حول البشر والتنمية. إن هذا العطاء المتدن أنتج وقت فراغ ، حاول الكثير من الأفراد ملئوه بالشيشة التي تعبر بشكل صادق عن تدني حالة العطاء الإنتاجي في المجتمع الذي ربما انعكس بشكل غير مباشر على الأداء الاقتصادي العام للمجتمع . ولم يكن عقد الثمانينات انقطاعا عما سبق ، بل تعمقت المدخلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداعمة لمناخ تعاطي الشيشة ، فالبطالة ارتفعت ، والطبقة الوسطى بدأت تنكشف أكثر خاصة على صعيد أوضاعها الاقتصادية ، كما أن تمدن الريف المصري بعد عودة العاملين في الخليج ، أدى لقلة عطائه التنموي تحت تأثير الثقافة الاستهلاكية التي بدت في تجريف مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية على حساب ظهور غابات من المباني الأسمنتية . أيضا اتسم المناخ السياسي بالركود وعدم الحراك الاجتماعي ، فالدولة احتكرت السياسة مقابل أن يشعر الناس بقيمة الاستقرار الذي نجح النظام المصري في تدشينها ، ولكنه في المقابل فقد خلف ذلك حالة من اللامبالاة السياسية التي تدفع للبحث بشكل لا شعوري عن أساليب للتسلية لقضاء وقت الفراغ ، ولعل أصدق ما يوصف به المجتمع في هذه الفترة بأنه افتقد " للهم القومي" الذي يحرك وجدان المصريين ، وتمحورت يوميات الإنسان المصري على اختلاف طبقاته حول " لقمة العيش" ، وما إن استطاع تأمينها في الصباح ، يصبح المساء وقتا للراحة وتنفسيا للضغوط عبر ملء المزاج بالشيشة وخلافه. دخان من العولمة عقد التسعينيات حمل هو الأخر متغيرات حاسمة خارجية وداخلية ، أدت لاختراق الشيشة طبقات وفئات مصرية ظلت بعيدة عنها تماما خاصة المهنيين سواء أكانوا محامين أو أطباء أو صحفيين وغيرهم ، فقد أدى تسيد الثقافة الأمريكية في المجتمعات العربية بعد انتهاء الحرب الباردة عبر ما يسمى بالعولمة ، إلى خرق القيم التقليدية المحافظة التي لا زالت أسر مصرية تحافظ عليها، فلم يعد هناك اعتبار لفكرة العيب داخل المجتمع ، حيث أصبح كل شي "عادي". كما أنه بفعل مشكلات متعددة ، بدأ النسيج الاجتماعي يبدو أضعف من ذي قبل ، فلم تعد العلاقات القرابية بقوة الماضي ، حيث تراجع منطق الأسر الممتدة ، مقارنة بطغيان نمط الأسر النووية الصغيرة ( أب وأم وأولاد) المنطوية على نفسها ومشاكلها في شقة ضيقة صغيرة منقطعة عن الكيان المجتمعي وغير مهتمة بما يدور فيه ، كما انتشرت الزيجات غير المتكافئة بسبب هيمنة البعد المادي ، حيث أصبح التقييم المجتمعي للأشخاص بمدى ما يملكونه من رصيد بنكي. وترافق مع ذلك ازدياد الاستفزاز الاجتماعي اليومي حيث اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، ولعل من يركب أتوبيس عام في مصر يكتشف حجم التعليقات الناقمة على أصحاب السيارات الفارهة التي تجوب الشوارع ، دونما اعتبار لمشاعر الفقراء. وبدورها صدرت الفضائيات التي انتشرت عبر أنظمة الدفع الرخيصة الشهرية غير المشروعة ، صورة للعالم الاستهلاكي الترفي زادت من الإحباط لدى المصريين ، كما شجعت على الانفلات الأخلاقي الذي انعكس في رفض أي روشتات طبية أو فقهية ، لأنه حينما ترى أناس آخرون سواء المنطقة العربية أو العالم الغربي تسللت إليهم الشيشة ، فيصبح السؤال لديك ، لماذا تظل أنت خارج السرب ، أليس العالم قرية صغيرة !!. وعلى خلاف المقهى التقليدي الذي يقدم الشيشة ومشروبات بسيطة بأسعار غير مرتفعة ، فإن عقد التسعينات شهد توسعا غير مسبوق لمشروعات " الكوفي شوب" ليتوائم مع النزعة الاستهلاكية المتزايدة في المجتمع ، وزيادة إعداد العاطلين من أبناء الفئات الميسورة الذين رغبوا في أجواء تجمع ما بين الحداثة الغربية والتقليدية الشرقية، ففي الكوفي شوب تجد الشباب والشابات يدخنون بشراهة منقطعة النظير التفاح وغيرها ، ويحاولون استدعاء النمط الغربي في الاستهلاك ، والتي تتمثل في الأغاني الصاخبة والفضائيات التي تعرض الأغاني الغربية الحديثة والفيديو كليب والمشاهد الصارخة. متغيرات اقتصادية وبالإضافة لما سبق فإن التسعينات والسنوات الخمس الأخيرة ، قذفت متغيرات جديدة للواقع الاقتصادي المصري ، فقد تم تسريح إعداد كبيرة من العمال أبان عملية خصخصة الشركات الحكومية التي بدأت في عقد التسعينات ، وهؤلاء لم يجدوا سوى الشيشة طريقا لقتل الوقت ، لاسيما أن معظمهم عمال غير مهرة ، ومن ثم كانت هناك صعوبات في انتقالهم للقطاع الخاص ، وأنضم المسرحين إلى فئات العاطلين الذين تزايدت أعدادهم أصلا ، بعد تخلي الدولة عن سياسة تعيين الخريجين. كما واجه الجنيه المصري تدنيا في قيمته في مقابل الدولار في السنوات الأخيرة، فضلا عن موجات الغلاء التي تضررت منها فئات اجتماعية ومهنية ( أطباء محامين ، ومدرسين وغيرهم يرى المجتمع أنها " مستورة اقتصاديا "، وهو ما أدى لتماهيهه قيميا مع فئات أخرى أقل ثقافيا واقتصاديا ، وربما الشيشة هي التي الأداة التي جمعت هموم هذه الفئات متنوعة المشارب ، حتى أن هذه الفئات الجديدة على الشيشة سعت للحماية من أضرارها ، مما أدى لظهور ما يسمي " بالمبسم البلاستيكي" الذي يتصور مدخن الشيشة أنه يحميه من انتقال العدوى ، كما لم يعد غريبا أن تجد شخصا يخرج من جيبه مبسم خشبي خاص به لاستخدام الشيشة أو حتى تجد بعض المقاهي تخصص شيشا لا يستخدمها ، إلا زوار بعينهم مقابل ارتفاع التكلفة الحجر. وفي مناخ التسعينيات ، دخلت فئة الفتيات بقوة إلى ميدان الشيشة ، ولعل هذا الدخول عكس أزمات مختلفة منها وجود ما يقرب من 9 مليون عانس ، وبالتالي أصبحت البنت مطالبة بالنزول للميدان لتبحث عن عريس ، فضلا عن سريان قيم الجندر والمساواة بين الرجل والمرأة ، وليس غريبا أن فتيات كثيرات يعتبرن تدخينهن للشيشة هو من قبيل إن الرجال ليسوا أفضل منا. إن هذا المناخ الاقتصادي المتدني والمنعكس على الأحول المعيشية ، وكذلك السياسي الذي احتكرت الدولة فيه فكرة المشاركة ، علاوة على المناخ الثقافي والمجتمعي الذي تهرأت قيمه وتم التجرؤ عليها..كل هذا مثل أرضا خصبة للشيشة كوسيلة لتفريغ الهموم والتسلية. عناصر ثقافة الشيشة ولأنها اكتسبت أرضا كبيرة بفعل المناخات السياسية والاقتصادية والثقافية ، فقد خلفت الشيشة بدورها مجموعة من القيم داخل المجتمع بلورت ما يمكن تسميته بثقافة الشيشة التي مثلت حائط صد أمام المحاذير الطبية أو الفتاوى الشرعية، ومن أبرزها ما يلي : 1- اللا مسئولية ، فلئن كانت الشيشة تمثل استرخاء ومهربا للمصريين من المشكلات والضغوط الملقاة عليهم، فقد عمقت من جهة أخرى قيمة اللا مسئولية في نفوس المصريين ، وهي قيمة تمتد من حيث قضاء البعض وقتا طويلا في المقهى، دونما اعتبار لأهل بيته ولمسئوليته الاجتماعية، كما أن السهر على تدخين الشيشة بالطبع لا يعير اهتماما لمسئولية العمل المنتج الجاد الذي يتطلب نوما مبكرا. 2- الفراغ واللامبالاة ، حيث أن تعاطي الشيشة هو اقتطاع من وقت الإنسان ، ولعل ذلك يعبر بشكل مباشر على فلسفة الإنسان المصري مع الوقت ، حيث أن انهيار قيمة العمل في مجتمعنا ، وتدني المستوى الإنتاجي ، دفع بالكثير من الناس لعدم الاهتمام بقيمة الوقت ، لأن البعض يعتبر أنه لا يحمل تكلفة أو لا يعرف كيف يملؤه بأشياء مفيدة ، لاسيما أن فالمصريين لا يعودون أبناءهم على طرق صحية لشغل الفراغ، مثل القراءة وممارسة الرياضة والهوايات الأخرى 3- منطق الشلة ، فقلما تجد شخصا بمفرده يجلس لتدخين الشيشة ، فدرجت العادة على أن الشيشة هي أداة يتجمع أكثر من فرد حولها ، حتى أنها ظلت لوقت قريب يتم تدخين شيشة واحدة من قبل عدة أفراد غير أن دخول طبقات ذات وضع اجتماعي واقتصادي أفضل ، أدي لأن كل فرد أصبح معه نارجيلته الخاصة. غير أن التجمع على الشيشة في المقهى ، يبدو انعكاسا لأزمة السكن بشكل عام في مصر ، حيث ضيق المنازل وازدحامها بالسكان ، وكذلك تراجع مساحة الحدائق العامة والبقع الخضراء، وارتفاع رسوم العضوية في الأندية الكبرى. ومن هنا أصبحت المقهى هي المكان المفضل لتلاقي الأصدقاء، وحتى بعض الأسر. 4- رمز وطني !، اللافت أن الشيشة تحولت إلى رمز وطني، فنسبة لا بأس بها من المصريين في الخارج ، يأخذون معهم الشيشة المصرية ليدخنوها لأنهم يعتبرونها جزءا من الوطن. 5- انتهاك الحياء الاجتماعي ، فعقدة النقص أدت إلى أن الشيشة مثلت تعويضا لهذه العقدة ، وخلف وراءها جرأة على انتهاك القيم في المجتمع ،فضلا عن التعامل مع الأمور بسطحية ، فنحن بصدد حالة من التذمر الاجتماعي التي أدت إلي شباب أجوف يعبر عن نفسه بأشياء ليست صحية أو صحيحة. 7- الصبر الاجتماعي، ففي مجتمعات تبدو راكدة من السياسة حتى الثقافة، فإن الشيشة تمثل أحد أدوات الصبر الاجتماعي. إن الخروج من نفق الشيشة وما يرتبط به من قيم يرتبط بحدوث تغير وإصلاح حقيقي في المناخات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تمثل وقودا لدفع الناس لتدخين الشيشة في مصر، ولعل أبسط مثال يردد في هذا السياق ، أن وجود ديمقراطية بالمعني الحقيقي في كافة مؤسسات المجتمع التحتية والفوقية ، يعني ازدياد المشاركة في الهم العام ، وبالتالي خلق نقاشات وتحركات بالتأكيد أنها ستتطلب وقت من الناس ، من المؤكد أنه سيكون على حساب ظواهر سلبية في مجتمعاتنا مثل الشيشة. (*) باحث وصحفي مصري، [email protected]