اللواء نصر موسى: معركة المنصورة الجوية منعت إسرائيل من اختراق الدلتا    عمرو أديب: نتنياهو أراد السنوار حيا.. وإيران لم تقف بجانب زعيم حماس    فرانكفورت يحسم الجدل حول بيع عمر مرموش في الشتاء    روبين أموريم أبرز المرشحين.. مانشستر يونايتد يبحث عن بديل تين هاج    ريال مدريد أم برشلونة؟.. وجهة هالاند الأقرب في الدوري الإسباني    نظرات حب بين تامر عاشور وزوجته نانسى نور بحفله فى مهرجان الموسيقى العربية    رقم ضخم.. متحدث البترول يكشف عن استمرار دعم الدولة للسولار والبنزين يوميًا    وزير الخارجية: أي ضرر بسبب سد النهضة فمصر لديها الحق في الدفاع عن أمنها المائي    سالم الدوسري يرد على حملة الانتقادات بصورة على «الشنكار» (فيديو)    ضبط 3 مسجلين خطر بحوزتهم 12.5 كيلو حشيش بمدينة بدر    انقلاب ميكروباص وإصابة عددًا من الأشخاص أعلى دائري المريوطية    «ناسا» تكشف عن أماكن محتملة لحياة فضائية تحت جليد المريخ| صور    طالب وطالبة يستغلان حفل تامر حسني في الجامعة لإعلان خطبتهما | صور    نقابة الصحفيين تنعى يحيى السنوار: اغتيال قادة المقاومة لن يُوقف النضال ضد الاحتلال    تين هاج عن مستقبله: الإعلام ينشر الأكاذيب    الصحة العالمية: الإبلاغ عن 439724 حالة كوليرا و3432 وفاة بالعالم    كل ما تود معرفته عن حجز قطع أراضي ذوي الهمم.. «الإسكان» توضح التفاصيل    حياة كريمة في المنيا.. المبادرة وفرت بيتا جديدا لأسرة «جميل توفيق»    وزير الخارجية: مصر ليست ضد حق دول حوض النيل في التنمية    رئيسة وزراء إيطاليا تعتزم إجراء محادثات مع «نتنياهو» بعد زيارتها للبنان والأردن    خالد الصاوي يكشف تفاصيل تعافيه من تعاطي المخدرات    منها الإغماء المفاجئ.. حسام موافي يكشف علامات التهاب البنكرياس (فيديو)    التعليم التبادلى    حبس عاطلين لسرقتهم المنازل بالزيتون    مئات الزوار يتوافدون على ضريح إبراهيم الدسوقي للاحتفال بذكرى مولده -صور وفيديو    زيادة المرتبات وساعات حضور أقل| مفاجآت بمشروع قانون العمل الجديد يناقشها البرلمان    أحمد الطاهري: كلمة مصر تعني الحكمة والعقل والقوة.. والزمن لاطالما يثبت صحتها وصدقها    ريال مدريد يتابع موهبة إيطالية    وزير السياحة يبحث التعاون مع رئيس شركة صينية كبرى في شغيل وإدارة البواخر    بهذه الكلمات.. رامي صبري ينعى وفاة الشاعر أحمد علي موسى    أخبار الأهلي : "بالقاضية.. الأهلي يهزم الزمالك ويتأهل لنهائي بطولة إفريقيا لكرة اليد    محمد ممدوح يكشف أقرب شخصية جسدها إلى قلبه    جامعة دمياط تحتل المركز الرابع محليا في تصنيف تايمز    باستخدام تقنية ثلاثية الأبعاد.. جراحة متطورة تعيد الشكل الطبيعي لجمجمة فتاة    الصحة: جراحة متطورة تعيد الشكل الطبيعي لجمجمة فتاة باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد    ضبط 239 سلاحًا ناريًا ومئات المخالفات.. الداخلية تشن حملة أمنية بالمحافظات    "حماية المستهلك": أكثر من 16 ألف شكوى في النصف الأول من أكتوبر    ماذا نصنع إذا عميت أبصاركم؟.. خطيب الجامع الأزهر: تحريم الخمر ثابت في القرآن والسنة    رئيس مجلس الأمن الروسي: نظام كييف يحاول صنع "قنبلة قذرة"    جوارديولا: حالة الطقس تحدد مستقبلى مع السيتي.. ونفقد دي بروين وآكي غدا    عالم أزهري: الإسلام تصدى لظاهرة التنمر في الكتاب والسنة    الدفاع الروسية تعلن عن خسائر القوات الأوكرانية خلال أسبوع    34 ألف نسخة مزورة.. الداخلية تطيح بعصابة طباعة الكتب المقلدة في القليوبية"    «بحبك يا زعيم وعملت اللي عليك».. إلهام شاهين توجه رسالة لعادل إمام    دعاء الشهداء.. «اللهم ارحمهم وجميع المسلمين واجعل الجنة دارهم»    إزالة 23 حالة تعد على الأراضي الزراعية بالشرقية    10 لاعبين يسجلون غيابا عن الزمالك في السوبر المصري.. هل تؤثر على النتائج وفرص الفوز بالكأس؟    ضبط المتهمين بالتعدي على طالب والشروع فى قتله لسرقته بسوهاج    وزير الصحة يعلن أهم جلسات النسخة الثانية للمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    الاحتلال الإسرائيلي يشدد من إجراءاته القمعية بالبلدة القديمة ومداخل الخليل بالضفة الغربية    غير صحيحة شرعًا.. الإفتاء تحذر من مقولة: "مال أبونا لا يذهب للغريب"    وزارة الثقافة تطلق فعاليات مهرجان أسوان احتفالا بتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني    بث مباشر.. نقل شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين    وزيرة البيئة تبحث مع نظيرها الأوزباكستاني آليات تعزيز التعاون بين البلدين    ارتفاع أسعار مواد البناء: زيادة ملحوظة في الأسمنت والحديد    وزير الصحة والسكان يؤكد أهمية تقييم التكنولوجيا الطبية في تعزيز الوضع الصحي    نشرة مرور "الفجر".. سيولة مرورية بطرق ومحاور القاهرة الكبرى    أسعار الذهب اليوم 18-10-2024 في مصر.. كم يسجل عيار 21؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البكاء المستعجل
نشر في المصري اليوم يوم 11 - 11 - 2010

نحن أناس لا نخاف الموت، لكننا نعشق الحياة، ولذلك سنضحك كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا. سنضحك لأننا لا نحب المشى، ليس لنا ثقل عليه، والضحك يحرك عضلات الجسم كلها، ولذلك سنضحك بدلا من أن نمشى. سنضحك لأن الضحك هو العلاج الوحيد الذى لايزال ببلاش. وأخيرا سنضحك لأننا لحسن الحظ مرة من نفسنا ننزل فى مستشفى «آدمى» يمكن فيه أن تضحك إذا أردت أو بمعنى أصح إذا استطعت.
والضحك بدأ بعد ساعتين من إفاقة أمى الكاملة من تأثير البنج، لم أرد أن أخبرها بما قاله لى الطبيب تاركا تلك المهمة العسيرة لحنكته، هنأتها على نجاح إزالة الورم، فسألتنى «سجدت لله شكر لإنه طلع حميد؟»، قلت لها «الحقيقة لأ.. لأنى نسيت السجادة فى البيت»، وعندما قالت لى «ده عذر أقبح من ذنب» ثم راحت فى النوم، اطمأننت على تماثلها للشفاء، وفرشت ملاية على الأرض وسجدت لله شكرا. بعد ساعات وعندما أصبح متاحا لها أن تأكل «حاجة خفيفة» نظرت باستعلاء إلى الصينية التى كان بها (علبتين) زبادى وطبق جيلى وموزة، طلبت منى أن أزيح طبق الجيلى بعيدا،
وعندما استغربت قالت لى «فى حد ياكل جيلى فى مستشفى يابنى»، ثم طلبت طبقا فارغا وعندما سألتها «ليه» لم تُعَبِّرنى، أحضرت لها الطبق فأفرغت فيه (علبتين) الزبادى ثم قامت بتقطيع الموزة وهرسها وقلبتها مع الزبادى، وطلبت قالبى سكر وإضافتهما إلى ما سبق واستمرت فى التقليب، ثم نظرت إلى الناتج الإجمالى بسعادة، وبدأت تأكل بتلذذ بعد أن قالت «أهوه كده الواحد يحس إنه مابياكلش أكل عيانين.. ماتجيب موزة عشان أعمل لك طبق».
بعد أن شربت الشاى وحمدت الله وأثنت عليه، دخلنا فى الجد، وبدأت تسألنى عن العملية أسئلة يحتاج الكذب فى الإجابة عنها إلى تركيز شديد كشف لى أننى لست ماهرا فى الكذب كما كنت أظن، حاولت الهروب بأن قلت لها «على فكرة الدكتور مانعك من الكلام عن العملية إلا لما هو ييجى»، فقالت لى «يا سلام على أساس إنى ماعملتش عمليات قبل كده.. هو إنت مخبى عليا حاجة يا وله»، وأنا ضربت جبهتى بكفى بقوة قائلا «ياه كنت هانسى العصر»، وعندما شعرت أن ذلك بالضرورة سيفهم خطأً قلت لها «هاخبى عليكى إيه يا أمى.. ما هى رجلك زى الفل أهيه..
حد يصدق إن دى كان فيها ورم طوله عشرة سانتى وعرضه تمانية سانتى.. ده الدكتور مش مصدق إن العملية نجحت أوى كده»، باغتتنى بالسؤال «إنت شفت الورم بعد ماطلعوه؟»، انقبض قلبى وقلت لها «أعوذ بالله.. الدكتور كان عايز يوريهونى بس أنا مارضيتش.. هى دى حاجة تتشاف»، ازدان وجهها بابتسامة فى غير محلها وقالت لى «إنت عارف أنا حلمت بإيه من شوية..
خير اللهم اجعله خير إن الورم ده زى مايكون تلات حتت سمك متقطعين ومحطوطين فى صينية.. هو أنا مش ممكن أشوفه.. ماتعرفش هم ودوه فين؟»، حاولت أن أصنع إفيها للهروب من تركيب الموقف وعبثيته وقلت لها «الدكتور خده البيت عشان يعمله صيادية»، ومع أنها استسخفت الإفيه السخيف فعلا، إلا أنها قالت لى ساخرة «ماكانش هيعرف يطبخه زى الصيادية اللى بتعملها أمك.. روح الحق العصر يا خفيف».
بعد الصلاة أصرت على أن أتصل بالطبيب الجليل الدكتور طارق الغزالى حرب لكى أطمئنه أننا «شلنا الورم الحميد»، كان الدكتور طارق جزاه الله عنى خير الجزاء هو الذى اكتشف الورم بالمصادفة وأدرك خطورته، كانت أمى قد ذهبت إليه بصحبة زوج أختى الذى كان يعانى من آلام فى رقبته، لا أدرى ما الذى جعلنى أستحلفها بالله أن تجعل الدكتور طارق يفحص قدمها اليسرى التى ظلت لأشهر تقول لى فى التليفون إنها «تزك» عليها،
وكلما سألتها «والدكتور قال إيه؟» أخذت تحكى لى كل مرة قصة عن عشب جديد أو وصفة خطيرة أو طريقة مدهشة فى التدليك، ولولا أن سخر الله لنا الدكتور طارق لكان هذا الورم الخبيث قد فتك بقدمها. كلما سألتنى «ماكلمتوش ليه يابنى.. عايزه أشكره» أخذت أراوغها، وعندما جاء موعد فحص مساعد الطبيب لقدمها أخذت تسأله ببراءة تمزق القلب: «بس فى حاجة غريبة يا دكتور.. أنا مش حاسه ببطن الرجل خالص..
ومش عارفه أحرك القدم.. هو ده من تأثير البنج ولا أنا فاهمه غلط»، نظر الرجل إلىّ مستغربا سؤالها، وأنا نظرت فى عينيه نظرة حاولت أن أضع فيها كل ما أملكه من استعطاف وقلت لها «متهيأ لى الدكتور وليد هو اللى هيقدر يجاوبك على سؤال زى ده.. مش كده يا دكتور؟»، والشاب الجميل هز رأسه موافقا وخرج بعد أن قال لى هامسا «بس كده مش صح.. ماتنساش إن الراجل اللى هيجيب لها دعامة القدم زمانه على وصول».
بالتأكيد الذين مروا فى التاسعة مساء فى ذلك الشارع الجانبى من شوارع المهندسين، لم يفهموا أبدا معنى أن يروا رجلا كالشحط يقف فى الشارع بالترينج والشبشب، وهو يبكى بكاء من ذلك الذى يستحق عليه الإنسان جملة «عيب تعمل فى نفسك كده».
لست من الذين يخجلون من البكاء علنا، دائما كنت أجد بكاء الرجال أمرا يدعو للفخر، فضلا عن كونه وسيلة علاجية مضمونة لنزح الأحزان أولا بأول خارج الروح،
لكنها كانت المرة الأولى التى أجرب فيها تعب البكاء المستعجل، والبكاء يحب التمهل، وأفضل البكاء عندى ما يكون بصحبة أمك أو زوجتك أو أعز أصدقائك فى جلسات تستمر بالساعات تتخللها ضحكات متقطعة تعطى البكاء نكهة خاصة وتحرض على المزيد منه، لذلك كله كانت المرة الأولى التى يتعبنى فيها البكاء، فقط لأننى لابد أن أبكى على عجل وأصعد لمواجهة أمى بما حدث قبل أن تعرف من الدكتور فتغضب لأننى خدعتها.
عندما استهديت بالله، وأخذت أحكى لها بالتفصيل ما نصحنى الطبيب بأن أقوله عن مدى خبث الورم وشراسته، وأنه كان يمكن أن يؤدى إلى بتر القدم، لولا أن الله سلم، وقتها كان يصاحبنى على شريط الصوت (بلغة السينما) صوت مريض يتأوه بقوة مقبضة، فى ظروف أخرى كان يمكن لصوت آهاته التى تدوى فى جنبات الدور أن يضايقنى بشدة، لكننى شعرت (وليسامحنى الله) أن صوت تأوهه جاء نجدة من السماء،
لكى أربط كل ماقلته لأمى من حقائق صادمة بضرورة أن تحمد الله لأنها على الأقل لا تشعر بمثل ما يشعر به هذا الرجل من آلام مبرحة، وقبل أن أسترسل فى سرد كل الحكايات التى مازلت أحفظها من قراءتى لكتاب (الفرج بعد الشدة) للإمام التنوخى، قاطعتنى أمى وقالت لى «يابنى إنت بتقول إيه.. الحمد لله طبعا.. إنت ناسى اللى شفناه زمان فى معهد الأورام».
وقبل أن تسألنى «يا نهار إسود.. وهو إنتو رحتو معهد الأورام ليه بس»، دعنى أقل لك هذه الديباجة الحتمية: كل المستشفيات كئيبة، وإن حسنت خدمتها وغليت أسعارها ونضفت أروقتها. لكن مستشفيات الفقراء فى بلادنا ليست كئيبة، بل حقيرة. والكآبة يمكن احتمالها، أما الحقارة فلا يجوز احتمالها. والمستشفى الحقير عندى هو الذى لا تسمح أحواله لمرضاه بالضحك والابتسام، وهم يأخذون نفسا عميقا ويقولون من قلوبهم «الحمد لله.. قضا أخف من قضا».
هذا ما أشعر بضرورة كتابته الآن وأنا أتذكر ذلك اليوم الذى جلست فيه قبل عشر سنين أو يزيد، إلى جوار أمى فى معهد الأورام الذى يظن البعض أنه انهار هذه الأيام، ولو سألونى لقلت لهم إنه كان منهارا يوم أن دخلته، وأظنه انهار قبل إنشائه، ولاعترفت لهم بأننى عندما سمعت خبر إغلاقه بسبب تصدعه، لم أُخفِ سعادتى بالخبر، حتى لو كانت سعادتى فى نظر بعض أصدقائى غير مفهومة وغير مبررة وغير إنسانية.
«أحسن.. يارب ينسفوه ويبنوا مستشفى بضمير».. قلتها وأقولها بصوت عال لأحاول أن أطرد من ذاكرتى صور تلك الأروقة السيراميكية الكئيبة التى لا صوت يعلو فيها فوق أصوات تأوهات المرضى سوى زعيق الممرضات، حيث الكل يبدو متحالفا بإخلاص من أجل تجسيد أبشع المعانى الممكنة لكلمة الأورام فى كل شبر من أروقة المستشفى، تجهم وعصبية وانعدام مهنية وروائح مقبضة وحمامات غير صحية وجفاء وغلظة وتدين منقوص، حيث تشعر أن هناك شعارا غير منطوق يسود فى المكان: «احمدوا ربنا إنكو لقيتو سرير أصلا»، لكنه سيصبح منطوقا بعلو الصوت لو قررت أن تشتكى.
جلست إلى جوار أمى التى ترقد متألمة لأن ممرضة «غاشمة» حملتها بعنف بعد خروجها من غرفة العمليات ورزعتها على السرير ليرتطم موضع إجراء العملية بالسرير فينزف جرحها الذى كان من المفترض أن يكون هينا وبسيطا وتسوء حالته لأشهر، كلما تألمت أقبل يديها وأعتذر لأن اليد قصيرة «غصب عنى»، وهى تنتزع ابتسامة بالعافية وتحمد الله وهى تميل علىّ قائلة بصوت تحرص على ألا يصل إلى مجاوريها «كرمه كبير..
مش كفاية إنه ماطلعش اللى فى بالنا»، ثم تحلّفنى أن أتصل بالفنان الكبير صلاح السعدنى لكى تشكره على أنه كان عونا لنا فى إيجاد سبيل إلى دخول المستشفى، كنت أعانى أيامها من البطالة والحرمان العاطفى وانسداد فى شرايين الأحلام، وكان عم صلاح ملاذى الألذ والأحن فى هذه المدينة، أقول لها إننى سأجعله يقدم شكوى رسمية لوزير الصحة فى كل من يعمل فى هذا المستشفى الكئيب من ممرضين وإداريين وعمال، فتقول لى غاضبة:
«والله لو عملتها مش هاكلمك تانى.. هم ذنبهم إيه.. دى تلاقيها ست غلبانة وبتقبض ملاليم.. أنا نصيبى كده يا ابنى»، وبينما أحاول كبح جماح رغبتى فى لعن كل أحرف كلمة النصيب التى لا تكف عن ترديدها دائما وأبدا، تبدأ هى فى سرد حكايات عن زملائها فى العنبر لكى تقنعنى بأننا «أحسن من غيرنا.. على الأقل إحنا مستورين والحمد لله.. إنت عارف اللى هناك ده جاى من بلدهم ومعاه كام.. إحنا لازم نحمد ربنا إننا لقينا أصلا مكان.. ده فلانة بتقول إن فيه ناس فى بلدهم حالتها أوحش بكتير وماعندهمش أصلا اللى يخليهم ينزلوا هنا.. والنبى يابنى كلم لى الراجل عشان يشكر لنا الدكاترة.. ربنا يقدرهم على خدمة الناس.. الناس ماقصرتش والله».
أقول لها إننى سأحاول أن «ألقط شبكة» فى البلكونة، وأهرب لكى لا أنفجر فى سخط لو تحملته هى فلن يتحمله شركاء العنبر الذين يصعب حالهم على المنافق قبل الكافر، أطل من البلكونة القبيحة على المبنى الذى فاض قبحه على كل ما حوله حتى صار الكون كله قبيحا بما فيه القاهرة، مع أنها تبدو من بلكونة بيتى الذى لا يبعد كثيرا مختلفة ومحتملة وأحيانا ساحرة.
بعدها بأشهر دخلت أمى ثانية إلى معهد الأورام لاستكمال العملية، وكان أكثر ما يحزننى أننى حمدت الله فى سرى أن الظروف لم تسمح بأن أكون معها، لم أفكر حتى فى أن أسأل أختى الطبيبة التى لازمتها عن رأيها فى المستشفى، كلما جاءت سيرة العملية وما رافقها من مضاعفات أقطم فى الكلام وأقول بنبرات غتيتة «مش عدت على خير الحمد لله.. غيروا لنا السيرة بقى». ولعل ذلك ما تقوله لنفسك الآن.
حاضر ياسيدى أنا آسف. سأعمل لى قفلة، بعد أن أقول لك إنك عندما يكتب الله لك فرصة السفر إلى بلاد آدمية تحترم الإنسان، ستكتشف أن المستشفيات التى يسمونها لدينا فاخرة تعتبر عادية جدا فى تلك البلاد، وأن ما يطلق عليه هناك مستشفيات فاخرة حقا وصدقا لا وجود له أصلا فى بلادنا. مثلا مستشفى أورام الأطفال الذى مازلنا نسميه الجديد والذى نعتبره مفخرة قومية وهو كذلك بحق، هو القاعدة وليس الاستثناء فى أى بلاد تحترم مواطنيها،
لكننا لسنا كذلك، ولذلك نحن سعيدون جدا به وأنا أولكم، مع أنه فى رأيى بكل حسناته يجسد أكبر إدانة لحال الصحة فى أزهى عصور المرض، ولو كنا مثلما تكاتفنا من أجل جمع التبرعات لبناء هذا الصرح الطبى، تكاتفنا من أجل تحقيق التغيير وإزالة الفاسدين والظلمة والمستبدين من على كراسيهم، وتوقفنا عن السلبية والجهل والطرمخة والطائفية، لكانت كل مستشفيات مصر آدمية، يضحك فيها المرضى الفقراء والأغنياء إن أرادوا لكى يتغلبوا على الألم.
وحتى يحدث ذلك ليس بوسعنا إلا أن نضحك.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.