قال لى أكثر من مرشح فى انتخابات مجلس الشعب: «نحن نواجه معضلة كبرى.. نذهب إلى الناخبين طلباً لأصواتهم، فلا يحدّثنا أحد فى برامجنا أو السياسة.. الناس لا تريد أن تسمعنا.. فقط يطلبون وظائف لأبنائهم.. شققاً.. إعانات مالية.. وخلافه.. يقولونها صريحة: مَنْ يحل مشاكلنا ويعيننا على مواجهة الفقر سينال أصواتنا».. أحد مرشحى الحزب الوطنى ذهب إلى منطقة «شبه عشوائية» هو يسميها كذلك وزع على الأهالى ملامح من برنامج الحزب وبرنامجه الشخصى، فلم يخرج أحد لاستقباله، ذهب هو إليهم، فاشترطوا عليه أن يدخل منازلهم، ويستمع إلى آلامهم.. خرج الرجل وهو يدعو الله ألا يختاره الحزب فى المجمع الانتخابى، وقال لى بصوت عاجز: «المشكلة أكبر منى.. إزاى شخص واحد يحل أزمة عجزت عن حلها الدولة؟!». يبدو لى أن كلام المرشحين يعكس أزمة حادة فى أى انتخابات مصرية.. إذ يصعب فصل آلية اختيار «نواب الشعب» وعملية الاقتراع عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التى تحدد ملامح وتفاصيل التركيبة الخاصة للمجتمع ذاته. تتفق علوم السياسة والسكان على ثوابت فى المشاركة السياسية للمواطن، فمن الصعب أن يكون صوت المواطن فى الانتخابات غالياً، بينما يشعر داخلياً أنه «بلا قيمة»، وإذا كانت الحكومة تراه هكذا داخلياً وخارجياً، فلماذا لا يبيع صوته لمن يدفع أكثر؟! والإرادة الحرة تنبع أساساً من تحقق الفرد فى المجتمع، مثلاً إذا كان الشاب عاطلاً عن العمل، ويفتقد الأمل فى غد أفضل، يصبح من السهل عليه إما أن يعزف عن التصويت، أو يبتز المرشحين باعتبارها فرصة للتشفى فيمن يظن أنهم مسؤولون عن بطالته.. وإذا كان الأب عاجزاً عن توفير الحد الأدنى من المعيشة لأسرته، فليس أقل من بيع صوته، باعتباره تنازلاً متواضعاً فى نظره ضمن عشرات التنازلات التى يضطر إليها كل يوم، كى يعيش هو ومَنْ يعول..! حسبة بسيطة لا تحتاج تعقيداً: الإرادة الحرة يصنعها مجتمع متحقق ومتوازن وتسوده عدالة توزيع الثروة.. والصوت الانتخابى يدخل سوق البيع والشراء إذا شعر المواطن أنه مقهور، وأن حقوقه مهضومة.. وسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه أوقف تطبيق حد قطع اليد للسارق فى عام الفاقة.. فكيف نطالب مَنْ لا يجد قوت يومه، ولا يشعر بقيمته فى المجتمع، بالحفاظ على «شرف صوته» فى انتخابات تأتيه كل خمس سنوات، ومعها فرصة ثمينة للحصول على بضعة جنيهات، أو فرصة عمل، أو شقة متواضعة، أو حتى «شنطة» بها كيلو لحم ومكرونة وأرز وسمن نباتى؟! أرجوكم لا تحسبونى متشائماً.. فذاك هو الواقع الذى يرفض البعض الاعتراف به.. فنحن نضع الحصان دائماً خلف العربة، نملأ أذن المواطن كلاماً معسولاً عن ضرورة المشاركة والتصويت بإرادة حرة فى الانتخابات، بينما لم نسأل أنفسنا: «أين هى الإرادة الحرة؟!».. هل وفّرناها للناس؟.. هل منحنا المواطن تعليماً «معقولاً» يتيح له تقدير قيمة «صوته» والحرص على المشاركة السياسية؟.. هل تلعب مؤسسات الدولة سواء الإعلامية أم الثقافية أم الدينية دورها المفترض فى بناء عقل عصرى ومتحضر للإنسان المصرى؟!.. هل قدمنا له نموذجاً للانتخابات النزيهة دون تزوير، حتى يؤمن أنه قادر على تغيير الواقع عبر صناديق الانتخابات؟! إن الانتخابات أى انتخابات جنين طبيعى يولد من رحم المجتمع، ويحمل الملامح ذاتها.. فإذا كان المجتمع «سجين» الفقر والجهل والعشوائية وغياب العدالة يتحول صندوق الانتخابات إلى وثيقة إدانة لنا جميعاً؟ [email protected]