قالتِ العربُ الكثيرَ عن الحُبّ. وأجملُ قصائد الحبِّ عربيةٌ. يبدو أن الطبيعةَ الصحراوية، بسكونها وشساعتها وغموضها ورهبتها، بوهج رمالها تحت هجير الشمس نهارًا، وظلمتها الموحشةِ ليلا، إلا من نجوم تنتثرُ على صفحة السماء، وقمرٍ يتوسّطُ جبهتها، مثل قنديل ينتظره المحبّون ليبثّوه أخبارَهم وشجواهم، يبدو أن تلك الطبيعةَ الفريدةَ ساهمتْ بشكل أساسىّ فى جعْل العربىّ يستجيرُ بالحبّ الحنون الرغد الأخضر من قسوة الصحراء وصُفرتها. وجعلته، من ثَمَّ، يفتّش فى أسرار الهوى، ويصنّفه ويرسم له لوحاتٍ وخرائطَ وجداول، ويؤرشفه ضمن مراتبَ ودرجاتٍ ومستويات. يقول منصور الثعالبى عن مراتب الحب، فى كتابه الجميل «فقهُ اللغةِ وسرُّ العربية»: إن أوّلَ مراتبِ الحبّ الهوى؛ أى المَيْل، ثم العَلاقةُ، أى أن يَعْلَقَ القلبُ بالمحبوب، ثم الكَلَفُ؛ وهو شِدّة الحب، ثم العِشقُ؛ وهو ما يزيد عن مقدار الحب، ثم اللوعةُ؛ وهى إحراقُ الحبِّ القلبَ، ثم الشَّغَفُ؛ وهو أن يبلغَ الحبُّ شغافَ القلب، أى غشاءه الخارجىّ، ثم الجوى؛ وهو الهوى الباطن، ثم التَّيْم؛ وهو استعباد الحبِّ للإنسان، ومن هذه المفردة أن نقول: «تَيْمُ الله»، أى عبد الله، وأن نقول: رجلٌ مُتَيَّمٌ، ثم التَّبْلُ؛ وهو أن يُسْقِمَ الهوى الإنسانَ المُحِبَّ، ومنها نقول: «رجلٌ مَتْبول»، ثم التدْليهُ؛ وهو ذهابُ العقل من فرط الهوى، ومنها رجلٌ مُدَلَّهٌ، ثم الهُيومُ؛ وهو أن يهيمَ المُحبُّ على وجهه من فرط الهوى، ومنها رجلٌ هائم. ونعرفُ الكثيرَ من قصص الهوى العربية، وطبعًا غير العربية، تلك التى تحكى لنا عن جنون المُحبين وسلوكاتهم التى نَصِفُها بالطيش والرعونة. ولا شك أن كلاًّ منكم شَهِد بنفسه نادرةً أو نادرتين من نوادر المحبين من حولنا. وأعرفُ شابًا تسلّل من بيروت إلى الأردن، أيام حصار بيروت الشهير، ليقرأ على حبيبته قصيدةً كتبها فى عينيها. فتعتقله شرطةُ الحدود، ويمكثُ خلف جدران المحبس شهورًا، ما فكر خلالها إلا فى كيف يوصلُ أوراقَ قصيدته إلى الحبيبة البعيدة. ويحدثنا الإسبانىُّ أنطونيو جالا فى روايته الفاتنة «الوَلَه التركى» عن امرأة تتبعّت شغفها الخاصَّ غير عابئة بالمنطق ولا بالعالم. ماذا تسمّون هؤلاء المحبّين وسواهم ممن ركبوا فَرَس الجنون الحرون من أجل مَن يحبّون؟ مجانين؟ طائشين؟ فاقدى عقل ومنطق؟ اِطلِقوا ما شئتم من نعوتٍ، أما أنا فأقول، وحسب، إنهم أحبّوا واتّبعوا حَدسَ قلوبهم؟! وخروجًا من شرنقة العشق الضيقة الخاصة بالمرأة والرجل، لنشارفَ حالاتِ العشق الأرحب. عشق الفكرة، عشق المبدأ، عشق الجَمع، عشق الوطن، نحكى أكثر عن جنون الهوى. حينما صام المهاتما غاندى، بجسده النحيل،عن الطعام شهورًا، وعندما مشى حافيًا 400 كم فى مسيرة الملح، عاريًا إلا من شال بسيط لا يقيه بردًا ولا حرًّا، ما كان مجنونًا، بل عاشقٌ من طراز رفيع. كذلك كان محمود أمين العالم، حينما تلقّى على ظهره سياطَ السَّجّان، والابتسامةُ لا تبرحُ وجهه العذب، كان عاشقًا مصرَ، وعاشقًا هذا الجلاد ذاته! لأنه يعرف أن الجهلَ والتضليل هو عدوهما معا. لماذا تذكرت كل هذا اليوم؟ لأننى، أنا التى يرمينى أصدقائى بالمنطق والصرامة فى إعمال العقل، أتيتُ، شيئا طائشًا مثل ما سبق. دُعيتُ للمشاركة بأمسية شعرية فى معرض الكتاب الدولى بالكويت فى الفترة بين 28/10- 7/11 وتزامنتْ، ضمنَ هذه الفترة، مشاركتى فى مؤتمر ببيروت تقيمه الحركة الثقافية أنطلياس فى الفترة من 4- 8 نوفمبر. قررتُ العودةَ من الكويت يوم 3 نوفمبر لأسافر إلى بيروت اليوم التالى. عرض علىّ منظمو مهرجان الكويت أن تكون تذكرة عودتى: الكويت- بيروت، فهذا منطق الأمور. رفضتُ وعدتُ للقاهرة، ومنها لبيروت! لماذا؟ لأننى لا أقدرُ أن أسافرَ إلى أىّ بلدٍ إلا عبر مطار القاهرة! لابد أن تودِّعَنى مصرُ، ولا بلدَ سواها! ورمانى الأصدقاءُ بالخَبل وقِلّة العقل! وقلتُ بل هو لونٌ من الشغف عميق! وتركتُ العقلَ لأهله. [email protected]