"تعودت على الذهاب إلى الحلاق لتخفيف ذقني فور أن يناديني من لا يعرفني قائلا :"يا شيخ". قبل يومين نبهني سائق التاكسي إلى تأخيري في الذهاب إلى الحلاق عندما قال لي: ممكن أسألك سؤال يا شيخنا صَعُبَ عَليّ أن أكسفه فقلت متقمصاً روح شيخ يقطر ماء الوضوء من لحيته: "تفضل يا أخي". كان الأسطى قد انتهى لتوه من تقبيل استفتاح يومه، ورقة بخمسة نفحها له الزبون الذي سبقني في الركوب، وهو صحيح يا شيخ الواحد لما يبوس الفلوس اللي بتيجي له من شغله .. ده يبقى حرام ؟" كان هذا الموقف الطريف الذي عرضته عليكم الآن من كتاب - ضحك مجروح - لبلال فضل. ومن أرد أن يعلم ماذا فعل بلال فضل في هذا الموقف من الممكن أن يرجع إلى صفحات الكتاب وسوف يستمتع مع بلال فضل في موقفه، ولكن ما دفعني أن اقتبس هذا الاقتباس بالتحديد، رغم أن الكتاب يعرض مواقف ساخرة يتعرض لها الكاتب في حياته ويروى من خلالها أفكار الناس وما يجول بداخل بعض من أفراد مجتمعنا أو العادات والتقاليد التي أصبحنا مبتلين بها أو الفكر المسيطر أو السائد على عوام الناس من البسطاء والمطحونين في هذا البلد فربما نعرف سوياً لماذا تلعب هذه الأفكار في أدمغه المصريين وتسيطر على جل حياتهم وتصرفاتهم طوال اليوم. ليس من المنصف أبداً أن أكتب دائماً عن الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية أو عن فساد النظام وظلمه وطغيانه وأعوانه وأن أصور للقارئ دائماً أن الشعب "تمام وزى الفل" وأننا لا نخطئ ولا تثريب علينا وأن من يحكمونا هم فقط المخطئين الدائمين ونحن ملائكة، ليس عدلاً أبداً أن نرفع أيدينا عن وصف مدى الاشتراك مع محكومينا في ظلم أنفسنا والطغيان على مجتمعنا وفساده ببعض الأفكار التي هي غريبة على الدين وعلى المجتمع، وليس عدلاً أيضاً أن لا نقف مع أنفسنا وقفة صادقة لكي نطهر أنفسنا قبل أن نطهر مجتمعنا وحياتنا العامة التي يشترك فيها جل المصريين. قال لي أحدهم ونحن نتناقش في حديث موت النبي إدريس عليه السلام، هل مات على الأرض أم مات في السماء الثالثة، وهل الحديث يروى هذه القصة بالتحديد أم لا، وهل الحديث أصلاً صحيح ؟؟ كل هذه الأفكار والأسئلة قد تداولناها فيما بيننا، وبينما نتجاذب أطراف الحديث قاطعني احدهم وقد أحسست عبر كلماته علامات استهجان على استنكاري للحديث وسؤالي عن صحته أو سنده أو حتى نصه الصحيح، قال لي في غطرسة كأنه عالم بباب الأمر والخروج " بص يا شيخ..!!" نظرت إليه بنظرة غريبة وهو يلقي على أسماعي كلمه "شيخ".. سارعته على الفور وقلت له "أنا مش شيخ" ويبدوا أن الطول البسيط للحيتي التي اعتدت منذ فتره بسيطة أن أطلقها دائماً أكثر من شهرين لجمالها والحمد الله ولحبي في اللحية أو الذقن التي تبعث على الوقار والهيبة وحسن المنطق جعل الذي يتحدث إليّّ يظن أنني بهذه الهيئة والمنظر والشكل "شيخ" أو على ما يبدو أنى منغمس في الدين رغم أن الأمر عندي في موضوع ترك ذقني هذا غالباً ما يكون شكلياً فقط ولا أنوي به سنه عن النبي أو ما شابه ذلك رغم هذا أخذني أحدهم بالشبه والشكل، وساعتها ما كان لي أن أعمل فيها "شيخ بحق وحقيق" وأتقمص الدور جيداً وأرد عليه وأقول - "أيوه يا أخى..!!" ما كان لي فعل هذا، لأن الأمر ليس بالمظاهر أو الأشكال أو الهيئات وعندما تحدث النبي عن الإيمان قال: إنما هو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، فالأصل في الأمر هي القلوب وليست الظواهر، وهنا موضع الاختلاف الذي أنا أتحدث عنه الآن أننا أصبحنا عباداً للمظاهر نميل ونغدو معها أينما وجدنها ..، ولعل أحدنا يسمع وهو يسير في الشارع هذه العبارة "شوفت يا أخى الراجل السني ده، ده شكله راجل كله بركه وخير"، هذا الحكم بالظاهر على الناس من بعيد ومن خلال الوصف الخارجي للشخص فيه خلط كبير بين أشياء كثيرة جداً، منها أن هذا الرجل من الممكن أن تتعامل معه على هذه الهيئة الحسنة وهو ليس كذلك فتقع في مصائب ومشاكل لا آخر لها ولا أول أو تضع الثقة في شخص لمجرد أنه شبيه إلى حد كبير لشيوخنا الأفاضل أو علمائنا الأجلاء في الشكل والمظهر، هذا هو الخلط المحض بعينه وهنا ووقتها لا تلم إلا نفسك، أصبحت هذه الأحكام على الظاهر عامة (ولست أعني مسألة واحدة في مجتمعنا كموضوع اللحية مثلاً) أصبحت مشكلة تُعدم المجتمع أمانة وتبعده عن روح الدين الأصيلة والعظيمة. ولكني لا أتكلم عن الأصل الديني القائل "أننا ما أمرنا أن نشق عن صدور الناس لكي نعلم ما بداخلهم كما قال النبيّ وحتى لا يختلط الأمر فكل ما أعنيه هو إطلاق الأحكام على الظاهر بالسلب أو بالإيجاب بدون الحديث مع الشخص نفسه ومعرفه هويته وفكره وانتمائه، يجب أن نعرف ونقترب أولاً قبل أن نطلق الأحكام على الغير من بعيد. كما يقول الدكتور مصطفى محمود في كتاب الإسلام في خندق .. وهو يتحدث عن إغراق الناس في التفاصيل والقشور والمظاهر والابتعاد عن الجوهر والعمق ورح الإسلام الصافية. " وهل بلغ النبي يحيى - حنا المعمدان - عليه الصلاة والسلام ما بلغه من نبوة إلا بذلك الحنان الذي كان يفيض منه. والذي قال فيه ربه - وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً - 13 مريم - فتلك كانت أركان نبوته الحنان والزكاة والتقوى، ونبينا عليه الصلاة والسلام الذي كان يحتضن جبل احد ويقول هذا جبل يحبنا ونحبه حتى الجماد كان موضع حب النبي وتوقيره وهذا ربنا يقول عن المؤمنين -"أولئك الذي امتحن الله قلوبهم للتقوى" فالقلوب دائماً هي موضع الامتحان وحب الله وحب ما خلق وما صنع من أرضين وسموات ونبات وحيوان وبشر وهو جوهر كل الديانات الحقة وهو المقياس الذي نفرق به بين أهل الدين والأدعياء المشعوذين والكذبة وكل الدعاة الذين يغرقون أتباعهم في التفاصيل والقشور والمظاهر ويبتعدون بهم عن روح الدين .. عن الحب والرحمة والتقوى ومكارم الأخلاق". وهنا يلقي الدكتور مصطفى محمود على الواقع الذين نعيشه من بعض العادات والأفكار التي أصبحت راسخة في أذهان الناس وينعكس ذلك على حياتهم وتصرفاتهم مع غيرهم في المجتمع فينظرون إلى التفاصيل والقشور لا القلوب والإيمان والأخلاق والجوهر والانتماء والفكر والعقل فيُسقطون ذلك على واقعهم فيصدرون الأحكام على الناس من خلال التفاصيل والقشور الخارجية التي ليس لها علاقة أصولية مع الدين. ولكن دعونا نرجع الآن إلى صديقي الذي لم أتحدث إليه إلى الآن ولم أقابله في حياتي ولو مرة، وهو - بلال فضل-..وهو يختم هذا الموقف الطريف بينه وبين سائق التاكسي ويقول.. "أشرت له إلى مكان نزولي، وبعد أن توقفت السيارة فتحت الباب وخرجت منها على دفعات، ثم أحكمت غلق الباب وأدخلت رأسي من الشباك، وقلت له : بص يا أسطى من الآخر الفلوس اللي أنت بتسأل علي حكم بوسها دي تعتبر فلوس حرام ولا حلال ؟؟، رد مندفعاً : حلال طبعاً يا شيخ، قلت له: لو حلال مش بس تبوسها... نام معاها لو عايز. وجريت". [email protected]