لا أدرى ما الذى صنعته بنفسى. ما الذى جعلنى أفتش فى أوراقى القديمة عن مقالات أحمد بهجت!؟. كنت أعرف أن موعد نومى قد حان، والليل قد أوغل ولابد أن أستيقظ مبكرا فى الصباح التالى. فلماذا أوقظ ذكرياتى الغافية وحنينى الدائم؟!. ما الذى جعلنى أبحث عن مقالات «أحمد بهجت» القديمة، التى نشرها فى بداية الثمانينيات، حينما كان القلب أخضر والشجر أقصر، والكروان لم يزل يجلجل- فى سماء المدينة- كل مساء؟ لم أكن أعرف أننى- بهذا الفعل المتهور- سوف أطرد النعاس عن عينى، وأسهر حتى الصباح. ها أنا ذا أمارس طقوس النوم المعتادة: أرقد فى فراشى، أضىء نور الأباجورة. أحتسى كوب النعناع الدافئ، الذى اعتدته كل مساء. أمسك بأوراقى القديمة. القلب يتوهج ويدى ترتجف. والزمان يتراجع فى لمح البصر، ثلاثين عاما إلى الوراء. وقتها كنت أتعلم العشق وأتعثر، وأخطو فوق النجوم وأتمخطر. وقتها كان الهواء أبرد، والقلب أدفأ، والنجوم بعيدة وقريبة، وقتها كانت الزهور أنضر، والفرح أكثر، والحزن أنبل، والموت فى سبيل الحب أسمى غاياتى. فى هذا الزمن البعيد، كنت أبدأ صباحى بقراءة صندوق الدنيا لأحمد بهجت. يرفعنى إلى السماء السابعة، ثم يتركنى هناك. كلماته لم تزل مطبوعة فى قلبى. ذلك العالم الساحر لهذا الرجل الساحر، مزيج الحب البشرى والعشق الإلهى، خليط خفة الدم والسخرية الناعمة، كان الصحفيون يكتبون عن الأحداث الجارية وكان يكتب عن الأشياء الباقية، التى بها يصبح الإنسان إنسانا. كانوا منهمكين فى المتغيرات السياسية، وكان عاكفا على مشروعه الإبداعى، متفردا بين أقرانه، شديد الحساسية للشقاء البشرى، يحاول اكتشاف الدهشة، ويمتلئ قلبه بالحب، ويذوب فى قطرة الندى، ويدور مع الكواكب. كانوا يكتبون عن الرؤساء وكان يكتب عن البؤساء، عن ملح الأرض والبسطاء، عن قصص الحب ووداع الشتاء، عن ذكرياته فى الصبا وصداقته للقطط والكلاب، عن القمر والمطر والليل والعشاق. والذى يقرأ صندوق الدنيا الآن لا يعرف أحمد بهجت الحقيقى، الذى توهج فى الثمانينيات، الرجل الذى كان يمتلئ حبا وافتتانا بالحياة، وصاغ مقالاته العبقرية من جنس مادة الحياة. كان « أحمد بهجت» مدرسة. مدرسة يشرفنى أن أكون تلميذه الخائب، الطالب الجالس فى الصف الأخير، الذى تمتلئ كراساته ب(الكعك) والعلامات السيئة. يسعدنى أن أكون النسخة (الصينى) المضروبة من الأصل (اليابانى) الفاخر، فائق الجودة، المعجون بتراب الوطن الغالى. هذه هى مدرستى الحقيقية، والدرس الأول، الذى تعلمته مبكرا عن «الكتابة الحميمة». حينما تكتب عن قصص الحب، والزهور والشتاء، والقطط والعصافير، وتخاطب النمل والجماد، حينما تمتلئ بأنفاس الليل، وتطرق أبواب الكون، وتخترق الزمن، وتسافر عبر المسافات. حينما تصنع ذلك كله، تصنعه بحب، وقتها فقط، يُفتح لك الباب، ويُقال لك: مرحبا، أنت فى مدرسة «أحمد بهجت»، الكاتب الإنسان.