كلما شاهدت إحدى حفلات سيدة الغناء العربى أم كلثوم أتأمل صورة الحضور الكثيف من جمهور العاشقين لصوت «الست»، وأطالع أزياء الحضور فى تلك الفترة الزمنية التى عاشتها مصر فى الخمسينيات والستينيات، الرجال بكامل أناقتهم والسيدات بأزيائهن الأنيقة المحتشمة، وأعود الى ما نحن فيه الآن وأتساءل ماذا حدث فى مصر؟ تساؤلى يأتى على خلفية ما طرحه الأديب الجميل الدكتور علاء الأسوانى مؤخرا فى ندوة بنادى الجزيرة، وما كتبه الزميل والصديق سعيد الشحات فى جريدة «اليوم السابع» وانتقادهما لانتشار الفكر الوهابى فى مصر والتحولات التى طرأت على الشخصية المصرية منذ فترة السبعينيات. وكان السؤال المباشر فى معناه العميق فى دلالاته هو «ولماذا لم تقاوم مصر الوسطية بحضارتها الإنسانية الممتدة فى العصور التاريخية القديمة والحديثة وإشعاعها الثقافى وإبداعها الفكرى هذا الفكر الوهابى فى تطرفه خاصة تجاه قضايا المرآة وشؤون الحياه العامة للأفراد والانقياد التام للحاكم وعدم الخروج عليه حتى لو كان كافراً فيما سمى بحكم الثيوقراطية لجماعة مسيطرة تتوارث الحكم فيما بينها بعيداً عن حكم الشعب والصيغ الديمقراطية المعروفة؟». انقادت الشخصية المصرية للفكر الوهابى فى السبعينيات بعد أن تخلت مصر السياسية عن مشروعها الوطنى والقومى المناهض للفكر الوهابى فى الستينيات والخمسينيات، والتحول من النهج الجمعى للمشروع السياسى إلى شعارات تحفز النزوع الفردى وتهيئ المجتمع لأفكار غريبة عنه مع عودة آلاف من المصريين متشبعين بتلك الأفكار من المملكة العربية السعودية وليس كل دول الخليج، لأن فى ذلك ظلماً بيناً لتلك الدول التى انفتحت معظمها على دول العالم وحققت خطوات ملموسة فى مشروعها السياسى والاقتصادى مثل الكويت والإمارات. ومع عودة التيارات السلفية إلى مصر، مع من عادوا، والتصالح السياسى، أو الصفقة السياسية بمعنى أدق، بين الإخوان والسادات بهدف ضرب التيارات القومية والوطنية فى الشارع السياسى فى الجامعات والنقابات والمدارس بدأت تلك التيارات فى بث الفكر الوهابى المتطرف وتركيزه على المرآة، التى كانت فى وقت من الأوقات مقياساً ومعيارا مباشرا لتقدم الأمة ونهضتها الفكرية والاجتماعية، وصبت تلك الجماعات مدفعيتها الثقيلة تجاه المرآة وجسدها الملعون المخلوق سكناً للشيطان. ولكن مرة أخرى.. لماذا لم تقاوم مصر بمفكريها ومبدعيها الفكر الوهابى؟ فى رأيى أن هناك أسباباً تاريخية وراء ذلك، فمصر المنغلقة والساكنة خلف حدودها فقط لم تقاوم مستعمراً ولم تحارب فكراً مستورداً إلا بعد فترات زمنية طويلة. عسكريا انتصرت مصر على أعدائها فى القديم والحديث خارج حدودها فى زمن الإمبراطورية المصرية سواء فى عهد رمسيس الثانى وحتى محمد على وفى لحظات الضعف والانكسار كانت مصر تجد أعداءها داخل حدودها. وثقافيا اعتادت مصر أن تكون منارة الإشعاع الفكرى والعلمى للعالم منذ مكتبة الإسكندرية القديمة فى أوائل القرن الثالث قبل الميلاد وحتى دورها ونفوذها الثقافى فى الخمسينيات والستينيات فى محيطها العربى والأفريقى والآسيوى فيما عرف ب«القوة اللينة» والتى مازالت بعض بقاياه حاضرة وشاهدة على هذا الدور لمصر القوية فى امتدادها وتمردها على جدرانها الجغرافية التقليدية وبتلك القوة الثقافية اللينة انتشر الإسلام الوسطى السمح عبر طلاب دول العالم الإسلامى فى آسيا وأفريقيا المبتعثين فى مصر. مصر لم تعتد أن تكون دولة رد الفعل وانما الفعل القوى والمؤثر بالمعنى الحضارى والإنسانى، لذلك لم تستطع أن تقاوم الفكر الوهابى وهى فى موقف رد الفعل.. والمسألة مازالت قابلة لنقاش مستمر.