دخلن إلى بيتى وابتسامة خجول تتقدم خطواتهن، وعندما أرادت دينا البدء فوراً فى الحديث الصحفى، استمهلتها بعض الوقت كى أستمع إليهن.. أنا لا أفعل هذا عادة، لكننى رغبت أن أعرف شيئاً عن أولئك الشابات ذوى الابتسامة الواسعة، والعيون التى لمعت بأسئلة لم تُنطق بعد، هل كان السبب عمرهن الصغير أم أنه شىء آخر قد أثار فضولى؟! دينا صحفية لم تدرس الصحافة لكنها عشقتها واختارت ممارستها، بسمة تخرجت فى الفنون الجميلة واختارت التصوير الفوتوغرافى، رغم أنها كانت بارعة فى فن النحت، ياسمين لا تزال فى سنوات دراستها الجامعية لكنها تعشق الكتابة وتكتب حاليا أولى رواياتها، لم يكن حدسى مخطئا فالشابات الثلاث يجمع بينهن شيئاً، يقال إنه نادر بين أبناء هذا الجيل: الاختيار. دار الحديث وتلقيت الأسئلة وأجبت عنها كأننى أحدث كل واحدة منهن. سألت دينا عن الذات ومعرفتها، عن الأسطورة الفرعونية، عن معنى السعادة وسبلها الوعرة، عن الكتابة وعمر النساء معها، عن الحرية والاختيار.. عبرت الأسئلة من وجهة نظرى عن هواجس تخص كل منهن، وأعتقد أيضا أنها تتردد بين الكثير من الشباب، الشباب الذين يشبهون دينا وبسمة وياسمين، وهم كثيرون، وكان قد دار فى ذهنى حوار مواز لم أفصح لهن عنه وقتها.. حوار حول هذا الجيل الذى يكيل له البعض الاتهامات جزافاً ناسين أو متناسين الظرف السياسى والاجتماعى المأزوم الذى ولدوا أثناءه وكبروا، ورغما عن أنف الأحوال الرديئة التى تمنع عنهم سرعة الازدهار والتحقق، فإنهم يعافرون من أجل شق طرق جديدة تخصهم وتتلاءم مع وعيهم، وسألت نفسى بدهشة كيف لا يدرك أصحاب الاتهامات الجاهزة المعجزة التى حققها هؤلاء الشباب: تخطى سنوات التعليم الذى إن لم يفسد عقولهم فهو يجمدها ويستأصل من تربتها بذور الإبداع، وتجاوز الخطاب الإعلامى التافة السطحى المكرس لكل ما هو غير ذى قيمة. تخبرنا الطبيعة عن معجزة الصبار، ذلك النبات الذى استلهمنا منه فضيلة الصبر، لدى الصبار قدرة مذهلة على التأقلم مع الجو الحار وغياب المياه، جسد الصبار هو عمود صلب يخزن المياه فى أوقات القحط، ويفرز مادة شمعية تمنع تسرب ماء الحياة.. وفى أوقات المطر يستطيع أحد أنواع الصبار أن تختزن 3000 لتر من الماء فى عشرة أيام فقط، كما أن جذوره تنمو بالقرب من سطح الأرض حتى تتمكن من التقاط المياه بشكل أفضل، وتخبرنا الحياة أن فى أوقات الجدب السياسى والاجتماعى، فى غياب جو مشجع للبشر على الاختلاف والابتكار والإبداع، يتحدى الإنسان الجفاف ويعيش رغم غياب المطر لأنه اعتاد اختزان بعض القطرات من هنا أو هناك. وقد حقق الجيل الأخير من الشباب المصريين معجزة الصبار باختزانهم ما أمكن من قطرات الثقافة والفكر، رغما عن أنف صخب التفاهة والاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر وغياب الحريات. لكن المعركة ليست محسومة تماماً، هذا ما يجب أن يدركه هذا الجيل. فبالإضافة إلى تميزهم بالوعى وامتلاكهم أسئلة وجودية إلا أن عليهم إدراك تحديات الطريق، الصعوبات التى قد تدفعهم لليأس والمغريات التى قد تجعلهم يتقهقرون عودة إلى الطريق الآمن الذى بلا أسئلة، فلكى يعيش الصبار عليه أن يدرك المخاطر المحيقة به ويقضى كل لحظاته فى الدفاع عن بقائه.