لماذا يتحرج البعض من وصف الخونة بأنهم خونة؟ ولماذا يعتقد البعض أن من التحضر أن نبتعد عن إطلاق هذه الأوصاف على من يستحقونها خشية أن نكون مخطئين فى حكمنا عليهم؟ ولماذا نكون بهذه الرهافة والحذر فى إطلاق التهمة حتى بعد أن نتأكد أنهم فعلاً منقوعون فى الخيانة؟ أعجب أشد العجب كلما قرأت دعوة لأحد الحكماء من السادة الكُتاب ينصح فيها بالبعد عن التخوين فيما بين المصريين وبعضهم البعض، حيث إننا جميعاً وطنيون نذوب عشقاً فى هذا الوطن، ولا نريد إلا مصلحته وإن رآها كل منا من زاويته ودعا إليها من منبره وعمل على تحقيقها بأسلوبه الخاص. وسر العجب هو إدراكى أننا لسنا جميعاً وطنيين كما يعتقد أصحاب دعوة نبذ فكرة التخوين، ولسنا جميعاً صرعى هوى هذا الوطن، وإنما يقيم بيننا بعض من أشد الناس خيانة لمصر وأهل مصر وأشدهم كراهية ونقمة واستهزاء بكل ما هو وطنى وعربى وإسلامى، لكن السؤال هو: هل كل ناقم كاره مستهزئ هو بالضرورة خائن لهذا البلد؟ والإجابة هى أنهم ليسوا جميعاً أقوياء بدرجة كافية تجعلهم كذلك، لكن من بين هؤلاء يظهر أصحاب الجسارة والقدرة على تحويل الكراهية والبغضاء ومشاعر الاحتقار إلى أفعال ماسة وضارة وقاتلة للوطن وأصحابه الطيبين. والحقيقة أن الخائنين لهذا البلد قد نجحوا فى تكوين فيلق إعلامى شديد البأس نجح فى تخويف الناس من تسمية الأشياء بأسمائها وفرض عليهم الحذر والتأنى، بالضبط كما يفعل المتآمرون عندما يتهمون من يعمل على كشفهم بأنه مؤمن بنظرية المؤامرة، مع أن الإيمان بنظرية المؤامرة ليس جريمة نعتذر عنها، لكننا أصبحنا نتحسس الخطى ونسوق المبررات ونكتب مقدمة طويلة كلما أردنا أن نتحدث عن مؤامرة واضحة للعيان، ولا ننسى فى الغالب أن نبدأ هذه المقدمة بأننا لا نؤمن بنظرية المؤامرة ومع هذا نود أن نقول كذا وكذا كذا!. يقول أعضاء الفيلق الإعلامى للخائنين إن تهمة الخيانة خطيرة وتجرد الإنسان من شرفه واعتباره بين الناس (وهذا صحيح) لكنهم يخلطون بين فضيلة كشف الخائن وفضحه، وبين جريمة قذف المحصنات، وهذا يؤدى بالشرفاء إلى التراجع خوفاً ليس فقط من اقتراف جريمة نشر يعاقب عليها القانون وإنما من ارتكاب كبيرة تعاقب عليها السماء. وعلى سبيل المثال أود أن أسألكم عن رأيكم فى جريمة الهروب من أداء الخدمة العسكرية.. لا شك أنها جريمة ماسة بالشرف، ولكن هل ترقى لدرجة الخيانة؟ الإجابة أنها ترتفع لدرجة الخيانة إذا حدثت وقت الحرب. والحاصل أيها السادة أن بعضاً ممن يمثلونكم فى مجلس الأُنس قد هربوا من التجنيد وقت حرب الاستنزاف عندما كانت مصر الجريحة تنزف صديداً مخلوطاً بالدم، والآن أصبحوا أسياداً للبلاد يملكون الأراضى والمشاريع والتوكيلات ويديرون الدولة لمصلحتهم، وهؤلاء وأمثالهم هم الذين قاموا بتكوين الفيلق الإعلامى الذى يحارب فى صفوفهم ويقوم بمهاجمة وتجريح من يذكر الحقيقة عنهم ويصفهم بأوصافهم الحقيقية. مثال آخر: أحياناً تخطئ الأحكام القضائية وتدين الأبرياء فى حكم أول درجة نتيجة قلة الخبرة أو ضغط العمل وكثرة القضايا، وعادة ما تتكفل درجات التقاضى الأعلى بتصحيح الخطأ، ولكن ماذا عندما تكون القضية مرفوعة من غير ذى صفة على نحو واضح تماماً يفهمه القاضى كما يفهمه العجلاتى والسباك والفسخانى وتكون الوقائع ملفقة بصورة جلية يراها المكوجى والخباز والقرداتى، ومع هذا يحكم القاضى فى مستويات التقاضى الأعلى بالإدانة ويقوم بإصدار الحكم واضح الجور الذى يصدم زملاءه القضاة ويكون موضع سخرية المجتمع كله، ومع هذا لا أحد يجرؤ على الحديث عن الخيانة الواضحة التى ارتكبها رجل نأتمنه على رقابنا، ويظل الجميع يتحدثون عن احترامهم للحكم القضائى ويؤكدون أنهم لا يقصدون التعليق على الحكم أو انتقاده، وينشط الفيلق الإعلامى فى التأكيد على أن الحكم هو عنوان الحقيقة، مع أن نفس رجال الفيلق لا يعلقون على تجاهل الحكومة تنفيذ آلاف الأحكام التى لا ترضى أسياد رجال الفيلق. وفى السياسة الزراعية فى السنوات العشرين الماضية يمكننا أن نلمح الكثير من الأخطاء والجرائم مثل تجريف الأرض الخصبة والاهتمام بالكنتالوب والفراولة على حساب القمح وهكذا.. لكننا مع ذلك يمكن أن نبتلع أن هذا كله من قبيل الأخطاء التى حدثت بفعل الجهل وقلة الاكتراث وليست بفعل الخيانة.. أما مسألة استيراد المبيدات التى تسبب السرطان فليست أخطاء ولا حتى جرائم عادية، لكنها خيانة مؤكدة فى حق الوطن، ومع هذا يطلق نفس الفيلق غباراً كثيفاً كلما فكر أحد فى الحديث عن الأمر باعتباره خيانة وفاعلية باعتبارهم خائنين! هذه مجرد أمثلة بسيطة ولن نتطرق إلى إسرائيل وعشاق إسرائيل ومحبيها، المغرمين بجرائمها فى حقنا والمعجبين برجالها السفاحين ونسائها من قتلة الأطفال، ولن نتحدث عمن يساهمون فى تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات بكل ما أوتوا من قوة، ومن خلفهم فيلقهم الإعلامى العرمرم!