تكلمت فى مقال سابق عن المأزق الذى وقع فيه اليسار الصهيونى المؤسس لدولة إسرائيل فى نهاية القرن الماضى، بسبب تعارض بعض سياساته العملية مع تراثه التاريخى. وعبرت عن اعتقادى بأن ظاهرة صعود وسيطرة اليمين شبه الكاملة، التى عبرت عنها الانتخابات الأخيرة، تعبر عن تبنى الأخير لمعظم مبادئ اليسار التاريخية، فأصبح الوريث المتزمت الأصيل لها. وألمحت إلى أن ذلك الوضع قد يؤدى إلى صعوبات داخلية وخارجية، بالذات فيما يتعلق بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة، قد تواجهها إسرائيل على المدى الطويل.. أريد هنا محاولة شرح بالتفصيل أسباب هذه الاعتقادات. يتطلب ذلك شرح أولا ما هى المبادئ المجسدة لفكرة القومية اليهودية التى سيطر عليها تيار اليسار الصهيونى، ولماذا لا تصلح لإدارة مجتمع حديث، متقدم تكنولوجيا واقتصادياً وثقافياً، وكيف تختلف اختلافاً جذرياً، من حيث المبدأ عن مبادئ المؤسسة للولايات المتحدة. تنتمى الحركة الصهيونية لمجموعة من الأيديولوجيات القومية التى ظهرت فى القرن التاسع عشر، كرد فعل لما نظر إليه كغطرسة فكر عصر التنوير الأوروبى، الذى نشأ فى القرن الثامن عشر والذى تبنى مبادئ اعتبرها كونية- أى سارية على كل البشر فى كل زمان ومكان، تتجاهل مراحل التطور التاريخى للمجتمعات والعلاقات العشائرية والقبائلية التى يفرضها، فى صالح مبادئ متفق عليها يجب أن يتبناها أى مجتمع مثالى ناضج، كحقوق الإنسان وحرية الفرد: مبادئ اعتقدتها مستوحاة من الفكر العلمى والمنطق العقلى نفسه، مما برر كونيتها.. جاءت المبادئ القومية تلك ضمن تيار فكرى رومانسى أوسع، رفض غطرسة العلم والمنطق والكونية المزعومة فى صالح مبادئ «الخصوصية»، النابعة من تاريخ كل أمة وجماعة والمعبرةعن الروح القومية الخاصة بها- أى الهوية النابعة عن تجربة طويلة على مدى الزمن التى لا يمكن أن تمحوها مبادئ مجردة تدّعى المنطق والعلم، لكنها باردة، وفى كونيتها تفتقد المعنى الجماعى للحياة الموجود فقط فى الروح القومية. ولأن ظاهرة «الأمم»، كما نعرفها حاليا، تعتبر ظاهرة حديثة، فكان على معظم ممثلى الحركات القومية اختراع «أممهم»، أو إعادة بعث القوميات التى كانوا يريدون تمثيلها- هكذا، عن طريق السياسة والشعر والأدب والموسيقى، تمت عمليات إحياء تراث الماضى التاريخى ال»خصوصى»، المتجسد فى ثوابت والقيم القومية المزعومة، ليشكل حائط صد يواجه خطاب التنوير الذى يسعى إلى «تذويب» وسلب هويات الأمم وإخضاعها فى نظر القوميين. لذلك فإن الصهيونية، فى وجهة نظر «أهارون دافيد جوردون» مثلا، وهو أهم مفكرى تيار اليسار الصهيونى، لم يكن هدفها الأساسى هو إنشاء دولة يهودية لتكون مأوى لليهود، تحميهم من الاضطهاد (كما كان رأى «هيرتزل» مثلا)، إنما لتحمى الهوية اليهودية من التذويب الذى كانت تتعرض له- فى رأيه- نتيجة اندماج اليهود المتزايد فى المجتمعات الأوروبية، والذى نشأ بدوره كنتيجة لسيادة أفكار وسياسات عصر التنوير وما ترتب عليه من تزايد للحقوق المتاحة لهم- أى أن، فى نظر «جوردون»، المشكلة الأساسية لم تكن سوء معاملة اليهود إنما الترحيب بهم كمواطنين متساوين فى الحقوق والواجبات، مما يؤدى إلى فقدانهم لذكراتهم التاريخية الجماعية! يجسد اليمين الصاعد حاليا فى إسرائيل هذا التراث، لأنه يعتمد فى نظرته للعالم على نفس نوع الانطواء القبلى، المتكك فى العالم الخارجى وإمكانية التفاعل والتواصل والاندماج معه بالفعل، هناك مقولة متداولة فى أوروبا الشرقية بين من ناهضوا هذا الفكر القومى الذى طالما ساد المناخ الثقافى هناك (وهو نفس المناخ الذى نشأ فيه معظم مؤسسى اليسار الصهيونى)، بأن مشكلته هى أنه يعّرف «الأمة» بأنها جماعة تتفق على الانطواء على الذات وكراهية العالم الخارجى، وأيضا على تفسير خاطئ ومفتعل لتاريخها وتراثها ذاته.. هذا التيار لا يتعامل مع من هم خارج «القوم» بسهولة. لكن ما يحرك إسرائيل حالياً نخبة علمية واقتصادية وثقافية مرتبطة- وتحتاج لأن ترتبط- بالعالم الخارجى، فى النواحى الفكرية ومن حيث التعاملات المادية أو الاكاديمية. لذلك، من المتوقع أن تجد تلك النخبة صعوبات بالغة فى المضى بالقيام بدورها فى ظل سيطرة تيار سياسى صاعد يستوحى أفكاره حرفياً من ظلمات القرن التاسع الرومانسية، يقود البلاد من حرب دموية يشمئز منها العالم إلى حرب دموية أخرى. من المتوقع فى هذه الظروف أن «يطفش» جزءاً كبيراً من تلك النخبة، خصوصاً أن معظم أعضائها مؤهلون بسهولة للعمل فى الغرب فتفقد إسرائيل قوتها الذهنية الدافعة، التى هى أساس نجاحها العلمى والاقتصادى والثقافى، والتى يربطها بالعالم الخارجى، وتكرس صورة إسرائيل كدولة حديثة متقدمة (وهذه الظاهرة موجودة فعلا منذ فترة هناك). ومما سيجعل الأمور أصعب هو أن الفكر القومى اليهودى، كما يجسده اليمين الصاعد حاليا، يتعارض بعمق مع مبادئ الولاياتالمتحدة الأساسية، بالذات كما يفهمها التيار الصاعد مع أوباما الآن. ذلك لأن هذه المبادئ مستوحاة من تراث عصر التنوير ذاته، بداية الكونية اللاتاريخية، وهو نفسه الذى رفضه مؤسسو القومية اليهودية، المستوحاة من رد الفعل الرومانسى ضد عصر التنوير. وفى رأيى أن هذا التناقض الجذرى سيظهر تدريجيا، فكريا وعمليا من الآن فصاعدا، رغم تأكيدات الجانبين المتوقعة بوجود قيم ونظرة للعالم مشتركة تجمعهما.. للحديث بقية. [email protected]