ما يحدث على صفحات عدد من الصحف - منذ خروج أيمن نور من السجن، وحتى الآن- نقل مؤسس حزب «الغد» من شخص له طموحات سياسية وخاصة متعددة الاتجاهات إلى شخصية تنافس المهاتما غاندى ونيلسون مانديلا. للأسف الشديد، الإعلام الآن مع انخفاض سقف الحريات وفساد نظام الحكم وفشل الحكومات لم يعد أمامه، إلا أن يصنع نجوما للشعب المتعطش لمانشيتات ملتهبة تُخرجه من حالة الموات التى يعيشها، مانشيتات تضاهى وتنافس قرع الطبول. الإعلام مثله مثل الشعب أفلسا، ولم يعد لديهما ما يقدمانه للحياة سوى مسلسلات هابطة تتلاعب بالعواطف ولاتدخل العقل. لكن أين هو العقل؟ إن ما نعيشه أشبه بالمسرح العبثى ويذكرنى بالأغنية الشعبية الفولكلورية «يا طالع الشجرة»، كلنا نطلب من الإعلام باعتباره من العالمين ببواطن الأمور ومتسلقى الأشجار أن يُحضر لنا بقرة نحلبها وتسقينا، هذا تماما ما نحن عليه، نطلب من الآخرين أن يحضروا لنا ما نريده لأنفسنا. فى زمن الاحتلال البريطانى لمصر كان هناك موال شهير مطلعه: «يا ناس هاتوا لى حبيبى» وكانت هذه الجملة تتكرر كثيرا فيه وقد استرعت انتباه ضابط إنجليزى كبير واستفسر عن معناها وحين عرف قال: كيف سيتمكن هذا الشعب الذى يطلب من الناس أن يحضروا له حبيبه أن يحصل على الاستقلال؟! سألت زميلًا مرة عن خبر نُشر فى الصفحة التى يشرف عليها وجدته غير مهم، وربما مغرضا ففوجئت برده: «الصراحة والكلام ده لكى إنتى، هذا الخبر عندى منذ عدة أيام ورأيى فيه هو نفس رأيك، لكننى لم أجد عندى (شغل) يكفى الصفحة فاضطررت لنشره، الجورنال ما بيستناش». تحت ضغط النشر اليومى والمنافسة والإفلاس العام ومناخ التكرار والاستنساخ والتقليد بسبب غياب روح الإبداع والتطوير، يضطر الإعلام بكل وسائله أن يصنع بضاعته بنفسه أحيانا ويروجها ويسوقها للمتلقى، الذى اعتاد على الأطعمة الحارة سريعة التجهيز، التى ربما تضر بصحته ولكنه لطول اعتياده عليها أصبحت هى الأطعمة الوحيدة التى يستسيغها. استرعى انتباهى مرة الصفحة الأولى من جريدة مستقلة اعتاد القائمون عليها أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم ناصريين وقوميين و...إلخ، مانشيتات الصفحة الأولى كلها عبارات مبتذلة يمتزج فيها الجنس بالسياسة. الجميع يسعى لإثارة شهية المستهلك لبضاعته حتى يختار جريدته بدلًا من الجرائد الأخرى وما أكثرها الآن وهى تتنافس جميعا على رقم توزيع أقل بكثير مما كانت توزعه الصحف الحكومية التى يطلق عليها «القومية» فى الثمانينيات رغم زيادة عدد السكان. ما يحدث فى الصحف يحدث فى التليفزيون والإذاعة، فكلها وسائل إعلام تجمعها رؤية واحدة وفكر واحد، وهى الآن تقدم بضاعة المقاولات وتسأل: ماذا يريد المستهلك؟ وليس كيف نخدم المواطن؟. بالتأكيد هناك حالات فردية فى الإعلام تحاول أن تجاهد لتقديم خدمة حقيقية للمواطن ولا يعنيها أن ما تقدمه ليس هو ما اعتاد عليه، وللأسف هذه المحاولات تكاد تختنق وتلفظ أنفاسها الأخيرة. فالحقيقة فى أوطان لم تعرف إلا الكذب تبدو عارية، والعُرى فى أوطاننا فعل فاضح يخدش الحياء، لذا دائما تجد الأكاذيب مرتدية أجمل وأروع وأحشم الثياب. متى نفيق من هذا الكابوس؟، متى سيعترف النظام الحاكم بأنه أخطأ فى حق مواطنين ارتضوا حكمه فدفنهم أحياء؟ لا خروج من هذا المأزق إلا بحرية حقيقية وديمقراطية حقيقية تعيد الفئران إلى جحورها، لتخرج الحقيقة عارية بغير خجل.