بخط يده، كتب الدكتور فؤاد محيى الدين، خطاباً إلى صديق فى برلين، يوم 25 أكتوبر 1952، يسأله عن آخر أخبار نسوان ألمانيا، ويبلغه بأن الأحزاب تحاول معاودة نشاطها، دون أمل، وأن بداية المأساة كانت يوم أن وافق الوفد على قانون الأحزاب الذى ألغى وجودها، وأن البلد يسير إلى حكم عسكرى سافر، رغم طنطنة الصحافة بالعكس! وفى الخطاب يروى الدكتور محيى الدين أنه باع سيارته القديمة ب 95 جنيهاً، واشترى أخرى جديدة ب 450 جنيهاً، وأنه يعيش فى بؤس بائس، وأن مجلس قيادة الثورة فيه اثنان من أسرته، هما زكريا وخالد محيى الدين، وأن حالته المالية «بايظة»، وأن ما حدث فى مصر يوم 23 يوليو انقلاب وليس ثورة، وأنه كان ينوى أن تكون له علاقة انتماء بالوفد، غير أن هذا المشروع أصبح مؤجلاً، حتى ينجلى الأمر وأنه.. وأنه.. إلى آخره! الخطاب نشره الأستاذ سمير غريب، فى صفحة بديعة كتبها فى «المصرى اليوم» أمس الأول، إلى جانب ثلاثة خطابات أخرى بخط يد كل من: السادات، وعبدالناصر، والنحاس باشا! ورغم المفارقات المدهشة، وربما المضحكة، فى الخطاب فإننى لم أتوقف عند شىء، بقدر ما توقفت عند وصف فؤاد محيى الدين لقرار إلغاء الأحزاب بأنه بداية المأساة فى البلد... فهذا فى تقديرى هو جوهر الموضوع كله، وهذا هو أصل الشجرة! ولكن المأساة الحقيقية أننا عندما نتأمل ما قاله الدكتور محيى الدين لصديقه فى الخطاب، ثم نقارن بينه وبين ما حدث فيما بعد، على يد فؤاد محيى الدين نفسه، سوف نجد أنفسنا أمام مأساة أعمق! ففى عام 1984 كان الرجل رئيساً لوزراء مصر، وكان عليه أن يدير أول انتخابات برلمانية فى عصر الرئيس مبارك، وكان اللواء حسن أبوباشا، وزيراً للداخلية. يقول أبوباشا، فى مذكراته الجميلة، إنه أجرى استطلاع رأى، عما سوف تكون عليه نتائج الانتخابات بين الأحزاب، وإن أجهزته كوزير داخلية قد جاءت له بنتائج الاستطلاع، وكانت تشير إلى أن الحزب الوطنى سوف يحصل على 75٪ من الأصوات، وتحصل المعارضة على الباقى، إذا جرت الانتخابات بغير تزوير لإرادة الناس! ويقول أبوباشا، فى مذكراته التى احتفى بها الأستاذ خالد محمد خالد، وكتب لها مقدمة تليق بقيمتها، إنه أى الوزير ذهب إلى اجتماع لمجلس الوزراء، برئاسة فؤاد محيى الدين، ليستعرض محصلة الاستطلاع، وإنه حين بدأ فى قراءة تفاصيل الاستطلاع ظهر الغضب على وجه رئيس الوزراء، لدرجة أنه أدار الكرسى الجالس عليه، وجعل وجهه للحائط، وظهره لوزير الداخلية.. وحين انتهى الوزير من تلاوة ما عنده، استدار رئيس الوزراء، وقال فى حسم: ليس عندى حزب وطنى يحصل على 75٪ من مقاعد البرلمان.. فالنتيجة التى ترضينى هى 99٪ على الأقل! وهكذا.. فعل رئيس الوزراء، عام 1984، عكس ما قاله تماما، عام 52، مع أن فؤاد محيى الدين هو فؤاد محيى الدين.. ولكن الفارق الوحيد هو سحر «الكرسى» الذى يجعل الرئيس يأتى مع وعد بالبقاء فترتين فقط، فيبقى أبد الدهر... وتكتمل فصول المأساة!