ماتت خديجة رعباً وخوفاً من كل شىء، استدمج عقلها الباطن (أى أدخلت إليه صوراً وأخباراً وأحاديث مزعجة عن الموت والامتحان وقسوة المدرسين وعبء الزمان ونظام التعليم والتربية الذى لا يُعلِّم، والغد القادم بما يحمل من ترهات وعذابات وعفاريت للثانوية العامة وغيرها، عن الزواج وسنينه وخلافات الأهل ومشاريع الطلاق، الجرائم وهموم تربية الأبناء فى الزمن الصعب، عن العسر الاقتصادى والألم النفسى الذى يعتصر الناس فى برّ مصر)... ماتت خديجة وعقلها الباطن خائف كالعصفور الذابل فى قفص الدرس، انتظاراً للمجهول والمعلوم أيضاً. غالباً خديجة ذات رهافة نفسية بالغة، سمحت بأن تغزوها المخاوف والظلال المرعبة، ربما الأخبار والرؤى وصور المجلات والجرائد عن زميلها إسلام الذى مات بضربة قدم من مدرسه اليافع، وربما لأنها لا تغذى عقلها الباطن بحرية اللعب وحرية الخطأ ورفاهية الطفل، ربما لأنها جنت ووسوست بالتحصيل العلمى؛ فضاق خيالها عليها وضاق صدرها الطفل بكل الاحتمالات القاسية، بدءاً من الفشل إلى العقاب إلى الإحساس المقيت بالذنب تجاه الوالدين، الإحساس المضخم بالذنب دون ذنب، ذلك الابن الشرعى لاكتئاب الطفولة الذى لا ندركه، لأنه لا يأتى صريحاً وإنما يتخفى فى تلابيب زى خديجة المدرسى، يقبع كالكلب الأخرس فى زوايا رئتيها يتربص بها، مما جعلها هشة وضعيفة تجاه سلطة الدرس والمدرسين والنظام التعليمى فى مصر. ماتت خديجة من الخوف الطفولى المدمر لعمر لم يتعد السنوات العشر تقريباً. خافت خديجة فماتت.. خاف عقلها الباطن ولم يتحمل أن يستمر حتى يبلغ أرذل العمر مثلنا، ربما لأننا نملك سميك الجلد وطول العمر وطول اللسان.. نملك التهتهة والصراخ وحرية اختيار الكلمات والقدرة البالغة على النواح، دون أدنى تعب وكأننا شهر زاد فى الليل الطويل، تصطف على جوانب شوارعه مصابيحنا المطفأة، وعيوننا المغشاة، وقلوبنا الصدئة، وضميرنا المهترئ، وأمتنا المصابة. أمرك مدرسك أنت وعدداً من زملائك فى الفصل بالخروج أمام «السبورة» لعدم إتمامكم (الواجب المنزلى)، أحسست وقتها أن ذلك الاستدعاء هو من الموت إلى الموت، مثلت لك «السبورة» ولقلبك الضعيف منصة المحكمة.. خِفتِ المحاكمة وفضلت الموت.. عملت أجهزتك كلها بسرعة لتسقط الجهاز العصبى، ولتنهار كل المنظومة الدفاعية النفسية. بعدئذٍ استدعى المدرس القاضى عامل المدرسة وطلب منه إحضار عصا لضربك أنت وزملائك، لم يكن الخوف من العصا خوفاً منها، ولا الخوف من الضرب خوفاً مبرراً، لكنه كان عبء المشهد كله عليك. فى السنوات العشر الماضية من عمرك وأنت تحملين هموم التربية ومنغصات التعليم فى مصر المحروسة، لم يرق لك أن تكونى فى زمرة (المقصرين) فى مجتمع منخور، يتحدث عن الكمال فى كل شىء وعن ضرورة التفوق، وعن هموم المجموع.. أصبت برعشة شديدة، وفقدت القدرة على الكلام. خرست للأبد وقد جاءت الشرطة والمباحث وبذلت وزارة التربية والتعليم المشكورة المنصورة المتطورة، كل مجهوداتها فى عملية العقاب المتبادلة، وأوقفت المدرس عن العمل مع جميع الإجراءات الأخرى التى لا تحل المشكلة من جذورها. صلينا عليك وودعناك وحلوقنا جافة.. لا نملك حق العزاء فكلنا مُدان. [email protected]