لست بصدد الدفاع الذى لا يحتاجه عادل إمام، ولا ينقص من حصانته أو يعزلها عن التجريح، أو تبديد فكرها وتاريخها، لست بالمحامى البارع فى مقتضيات تلك المهنة، والتى لن تضيف إلى حقيقة وجود تاريخ من الفكر القومى والعروبى ذى باع طويل وممتد لهذا الفنان، ومواقفه المحفورة فى ذاكرة الفرد العربى من المحيط إلى الخليج، ولو كره الكارهون والحاقدون تلك الذاكرة وذاك الامتداد لهذا المبدع الإنسان، تلك المواقف الداعمة للشعوب المنكوبة، ونكبها أشد اليوم من بعض الحناجر المتشفية، والتى تنضح بغلها، وتلك المواقف العملية أيضا، والتى كانت تارة محفوفة بالمخاطر حوله، وأخرى ملغومة بعداء قاتل له من أعداء الفكر والحرية والعدالة، ولو أردت أن أستعرض رحلاته الداعمة دائما للحق الفلسطينى لأبت هذه الصفحة أن تستكفى بعدد كلماتها الخمسمائة المطلوبة من جهة التحرير، بل لتكاد تنأى برفضها لإثبات أو برهان لا يحتاجه تاريخ عادل إمام ليصفع به وجوه بعض من لا وجوه لهم وبالتالى لا حياء، ولكن لابد من الإشارة بادئا ذى بدء إلى أول أحجار وضعت فى بناء لصروح التعليم الجامعى، فى القدس العربية من خلال (بيت مال القدس)، والتى مقرها انطلق من مكمن تأسيسها فى مدينة فاس، وكانت مدعومة بجهد فارس الإحساس والمشاعر العربى عادل إمام، يومها تحدث عنه طويلا فى جلسة الافتتاح المناضل الفلسطينى فيصل الحسينى، رحمه الله، بما يخجل بقية الفصائل الفنية التى كان بمقدورها تقديم ما قدمه عادل، وكنت يومها شاهدة لهذا الحدث باعتبارى من أدار تلك الجلسة، هذا فقط مثال للتذكرة وليس لزوم البرهان والإثبات، ومن بعدها مواقف كاد أن يدفع ثمنها حياته دعما لحرية الفكر، ومناهضة لإرهاب كاد يعصف بأمان الفرد فى مضجع سباته، وكان إمام التحدى لهذا الظرف موجودا على الساحة العملية وليست الحنجورية، عبر خطواته إلى معقل الإرهاب آنذاك، وعبر جسور فنه التى تمكنت بجدارتها، فى ذاكرة السينما العربية التى ستخلد هذا الفنان وتعطيه بعدا إنسانيا، ندر وعز على آخرين ممن يدعون النجومية المفخخة بذات نرجسية، وفى ذات الوقت ضحلة إلا من غلها وحقدها فى تطاولها على قامة تاريخ هذا المبدع العربى المصرى الأصيل. فى ذات اللحظة الحاضرة والممجوجة بلغط وبتشويش فى زمن عز أيضا عليه الوضوح، واختلطت فيه الأوراق بأحبار المدلسين والمتبجحين، وانسكبت فيه مياه الحياء لمن استفاقوا فجأة من سباتهم الإنسانى، وأحبوا أن يلحقوا بقطيع البعبعة، والجعجعة والمزايدة على حساب قوافل الشرفاء من الفنانين، فراحوا يدينون إمام، بتصريح له شوه ومسخ، وقرئ مشوشا، وصيغ بما أحب له حزب المغلولين أن يصاغ. وأيضا، لست هنا بصدد إدانة أى أحد من هؤلاء الفنانين العرب ولا بعض المتحذلقين والمنظرين من فوق منابرهم الدافئة بأموال الفضائيات ورجال الأعمال، ولا أنا بصدد فتح ملفاتهم القديمة منها والجديدة، والتى تنوء بحملها وجنتى وكتفى الخجل، لكنى من منطلق ضجرى بزيفهم، ونفاد صبر تحملهم طويلا و مع نفاد آخر نفس لم يعد يحتمل ثانى أوكسيد كربونهم، أطالبهم باعتبارى أحد أركان المواجهة والمجابهة فى خندق العروبة الفعلى منذ بدء الانتفاضة الأولى، ثم الثانية، مرورا بحصار العراق لمدة ثلاثة عشر عاما، ومقتل ملايينه من الأطفال والنساء والشيوخ، ثم مرورا بتواجدى فوق الأرض اللبنانية خلال حرب المقاومة الشريفة للعدو الإسرائيلى، أطالبهم ردا على مطالبتهم الصفعية والغراء والمتبجحة باسم أطفال غزة للعادل وإمام الفعل لا الحنجرة والصياح، بالاعتذار منه لأطفال غزة، أطالبهم بدورى أن يعتذروا لملايين الأطفال فى جنازاتهم التى مضت مسرعة (على ساق عجزهم، وقدمهم فوق رؤوسهم) إلى مثواها الأخير فوق أشلاء العراق من أقصاه إلى أقصاه، دون حتى صرخة احتجاج آنذاك منهم، ودون قطرة ماء أو قضمة من رغيف عيش كانوا باستطاعتهم أيضا آنذاك تقديمها لآولئك الأطفال المحاصرين، لكنهم اكتفوا بالمشاهدة وبالانخراط فى حياتهم الخاصة والفنية، وأطالبهم أيضا بالاعتذار إلى ضحايا المجازر الإسرائيلية فى جنوب لبنان القريب جدا كان من منازلهم (خوفا ربما من مشاق الطريق التى كانت آنذاك مفتوحة على مصراعيها أمامهم وأمام قاذفات العدو). فتح سوق عكاظ مجددا لكنه هذه المرة تخصص فى باعة الكلام والقوافى فى مدرسته الهجائية، لكن قصائد هجاء هؤولاء تبقى هجاء ناقص الأركان فى قوافيهم المكسورة والتى لا تحمل إلا نشازها، وركاكة أوزانهم الموغلة والمستفحلة فى خفتها و انكسارها تحت أقدام قصيدة متمكنة وقوية، كان ولا زال لها باع شاعر حقيقى شجاع مستشعر على الدوام بقيمة الحق والعدل، بل وفاعله ومستفعله على أرض الواقع، قصيدة من بحر طويل متمكن فى إرساء ذاكرة صلبة لاتنسى أنه عادل إمام.