كثيرة هى الأقلام التى خاضت فى شرف الإعلام المصرى وفشله فى مواكبة حرب إسرائيل على غزة. ومع تسليمى بأن إعلامنا المرئى والمسموع والمقروء كان يرجونا ويدعونا «بلاش يجبرنا» إلى البحث عن قناة أخرى أو جريدة أخرى إذا أردنا أن نعرف حقيقة ما يجرى على بعد «بضعة» كيلو مترات منا إلا أننى لن أخوض مع الخائضين وأمنح الإعلام المصرى تاج الجزيرة «السلطانية»، فما أسوأ أن تحلل هذا الأمر على طريقة «اقتلوا أنس الفقى أو اطرحوه أرضاً»، أو اطردوا رؤساء التحرير الذين عينتهم الدولة، فقديماً قالوا «ما هكذا تورد الإبل» وحديثاً نقول: رمى الإعلام باتهامات التضليل والتزييف والتغييب دون ذكر الأسباب التى أدت إلى ذلك هو نوع آخر من التضليل. قطعاً هناك فشل وقطعاً هناك أسباب أفضت بنا إلى ذلك الفشل، وما أيسر أن نفتى ونلقى محاضرات حولها مع أن الأمر يتلخص فى كلمتين قبل أن أقولهما ينبغى تذكير أنفسنا بعدة حقائق: أولاً: مع أننا نمتلك قمرين صناعيين ومدينة إنتاج إعلامى وعشرين قناة ومائتى جريدة، فإن المنتج البشرى النهائى من هذا كله ينتمى إلى إعلام العالم الثالث. العبرة إذن بالذى يمسك بالسلاح، وليس السلاح نفسه. ثانياً: إذا كانت أغلب الصحف الخاصة نهجت نهجاً مغايراً لما انتهجته الصحف القومية إلا أنها لم تقفز بأدائها إلى آفاق أخرى بعيدة عن إعلام العالم الثالث لأن ارتداء الكوفية والهتاف الفلسطينى والبكاء على نسائها وأطفالها ليس من وظائف الإعلاميين، كما أن السخرية من الرئيس والتريقة على وزير الخارجية لا يمكن أن تصنفا على أنهما «حالة صحافة حرة» ينبغى التصفيق لها. ثالثاً: عندما كانت مصر تواجه خطراً خارجياً كان الجميع يحتشد خلف الموقف الذى يتخذه النظام الحاكم، ولأن موقف مصر كان دائماً واضحاً كالشمس حاداً كالسيف كانت الأمور تتم بطريقة يسيرة، أما حين يبدو تقديرك للموقف - كما حدث مع غزة - ضبابياً ملغزاً متغيراً كل ثلاثة أيام، لا شىء واضح فيه إلا عداءك لحماس واعتبارها امتداداً للإخوان المسلمين، فماذا يمكن أن يفعل الإعلام المصرى، وهو يرى مظاهرات العرب تسب مصر ورموزها، غير أن يشتم حسن نصرالله وأمير قطر ومعايرته بأنه انقلب على أبيه ومعايرة الفلسطينيين - الذين يتعرضون للذبح - بأننا نحن الذين أطعمناهم وأسقيناهم وأسكناهم وقدمنا 120 ألف شهيد من أجلهم؟! رابعاً: عندما تبنى استراتيجيتك الإعلامية على أن صحفك وإذاعتك وتليفزيونك يجب أن تعبر - بالضرورة - عن الموقف الرسمى للدولة فهذا سيؤدى بإعلامك إلى أمرين.. الأول أن الجماهير التى يتوجه إليها ستنفض من حوله حين تتقاطع مواقف الشارع مع مواقف النظام، كماحدث فى الأسبوعين الأول الثانى من حرب إسرائيل على غزة، لقد هربت الجماهير إلى قنوات أخرى بحثاً عن الحقيقة، كما كانت أكوام الصحف الرسمية تعود كما هى تقريباً. والشىء الثانى أن استراتيجية الإعلام الموجه حين تعمل فى ظل سماوات مفتوحة على بعضها تجعل المشاهد قادراً على استدعاء العالم كله إلى الغرفة التى يشاهد منها التليفزيون - لن تتمكن من الإبداع وستضطر إلى استخدام نفس الألفاظ والتعبيرات التى كانت تثير حماسنا وتعصف بوجداننا قبل أن نعرف الدش والديكودر والقمر الأوروبى والقمر العربى والسى إن إن واليورونيوز والعربية والجزيرة. ألفاظ الإعلام الموجه التى أصبحت تثير فينا الضحك أكثر من أفلام إسماعيل ياسين، لكن الذين يديرون الإعلام لا يعرفون غيرها، فهل كان يجب عليهم أن يصادروا أجهزة الديكودر ويهدموا «الدشات» من فوق منازلنا، وأن يغلقوا كل الصحف الخاصة قبل أن يسوقوا بضاعتهم لنا؟ نعم كان يجب أن يفعلوا ذلك لكى نسلم عقولنا للأساتذة محمد على إبراهيم وممتاز القط وعبدالله كمال ليشكلوها كما يشاءون! خامساً: الدور المصرى فى المنطقة بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل لم يعد هو الدور وقت أن كانت مصر هى التى تقود المنطقة. والقضية الفلسطينية وإن كانت قائمة على حالها إلا أن الأمور تغيرت بعد موت عرفات وانتخاب حماس لتشكل الحكومة وفشل محمود عباس فى التعبير عن الفلسطينيين، حيث لم يعد أحد راضياً عنه سوى إسرائيل، وسوريا التى أصبحت أكثر اقتراباً من إيران، ولبنان الذى يتمنى لو يطير بعيداً عن الشرق الأوسط، باختصار كل شىء حولنا تغير لكن الإعلام المصرى مشغول بالشأن الداخلى وطوابير الخبز وغلاء الأسعار والبطالة والصحة والتعليم والإسكان وأنبوبة البوتاجاز، فكيف نطلب منه فجأة دخول امتحان «خارجى» لم يذاكر سطراً واحداً فى كتابه المقرر، ونتوقع بعد ذلك النجاح؟! وتبقى الكلمة أو الكلمتان اللتان تلخصان الموقف كله: لقد أثبتت الحرب على غزة أن مصر الرسمية يجب أن تعيد تقدير مواقفها من أشياء كثيرة، أنا شخصياً شعرت بأن الإعلام المصرى يفتقد مطبخ صنع الأخبار والتحاليل والقدرة على انتقاء المصادر، لأن سياستنا أيضاً تفتقر إلى ذلك المطبخ، نعم هناك طباخون هنا وهناك ولكن «نَفسْهم» فى الطبيخ يجعلنا نترحم على طباخين زمان، أشياء كثيرة حولنا تشعرك بأن بلدنا مفكك، كثيرون مثلاً يعلمون أن الملفات التى تديرها الخارجية المصرية ليس من بينها إسرائيل وفلسطين والفصائل، فكيف نلوم أحمد أبوالغيط مع أنه طلع يتصور بس مع وزيرة خارجية إسرائيل؟ أبوالغيط مظلوم تماماً مثل الإعلام المصرى، لكن لأننا نقدر عليه وعلى الإعلام علقنا لهما حبل المشنقة. موقف مصر فى بداية الحرب يؤكد حاجتنا إلى المراجعة، لقد بدا للجميع قبل المبادرة المصرية أننا «فرحانين» فى حماس، لأنهم لم يسمعوا الكلام ولم يمدوا فترة التهدئة، ليس هذا فقط بل فرحنا لأنهم «إخوان مسلمين» ولأنهم متحالفون مع سوريا وإيران، مع أن الضحايا من حماس لا شىء إذا ما قورن عددهم بالضحايا الحقيقيين، الذين يعتبرون مصر، رغم كل شىء، هى السند الأول والوحيد لهم إذا قامت بدورها، وهذا ما حدث فى شرم الشيخ. نعم.. همّا كلمتين على رأى المرحوم الفنان محمد رضا: مصر كبيرة رغم أنف من يحاول «تقزيمها»، ربك خلقها كده، لكن منين نجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه.