أخشى أن تصبح مصر أحد الخاسرين الرئيسيين حين نشرع فى تقييم تداعيات الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية. فمنذ أن تمكنت حماس من السيطرة على غزة فى صيف 2007، وتصفية نفوذ الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية والموقف المصرى استند إلى ثلاثة أركان رئيسية: 1- أولوية المصالحة الفلسطينية بين الضفة الغربيةوغزة عبر بوابة المصالحة بين فتح وحماس، الأمر الذى استدعى سعى القاهرة للوقوف على مسافة واحدة من الطرفين، 2- حتمية الحيلولة دون انفلات الأوضاع الأمنية فى غزة لما قد يشكله ذلك من خطورة بالغة على أوضاع فلسطينيى القطاع وأمن المناطق المصرية المتاخمة لغزة، 3- أهمية إدارة المعابر على طول الشريط الحدودى بين مصر والقطاع على نحو يضمن إنهاء حالة الحصار المفروضة إسرائيلياً ويحمى فى الوقت ذاته الأمن القومى المصرى. ومع أن مصر خبرت خلال الأشهر الماضية وقبل بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية التداعيات الكارثية لعدم إحراز تقدم فعلى على هذه المستويات، إلا أن دبلوماسيتها والأجهزة الأمنية الضالعة منذ سنوات فى إدارة الملفات الفلسطينية لم تتمكن من تحقيق اختراقات جوهرية حتى انفجر الوضع مؤخراً. لم تنجح القاهرة فى إنجاز المصالحة الفلسطينية ودفع فتح وحماس للتوافق على صيغة لحكومة وحدة وطنية تعيد السلطة الفلسطينية إلى القطاع وتحول دون عزله عن الضفة من جهة، وتضمن من جهة أخرى تمثيل حماس فى الحياة السياسية الفلسطينية. تعددت أوراق المصالحة التى تقدم بها الجانب المصرى، إلا أن انحياز القاهرة لفتح وشكوكها المستمرة إزاء حماس ونواياها أفقدها مصداقية الوسيط المحايد، ودفع حماس المدعومة إيرانياً وسورياً لتعويق الجهود المصرية. ثم تكرر ذات الإخفاق على مستوى التوصل إلى تهدئة بين إسرائيل وحماس تضمن حقوق الفلسطينيين، فلم يسفر اتفاق التهدئة الأخير بين الطرفين الذى رعته القاهرة فى صيف 2008 واستمر العمل به لمدة أشهر ستة عن إنهاء الحصار المفروض على غزة، وهو ما عنى كارثة إنسانية وحياتية لسكان القطاع أو عن توقف خروقات قوات الاحتلال المستمرة للتهدئة. أخطأت حماس استراتيجياً وتكتيكياً حين بادرت بإعلان رفضها مد العمل بالتهدئة معطيةً الآلة العسكرية الإسرائيلية بذلك مبررات شن حربها على غزة، إلا أن الثابت أيضاً أن التهدئة لم تقدم للفلسطينيين المرجو منها, وأظهرت مصر بمظهر الفاعل العربى الكبير الذى يفتئت على حقوق الفلسطينيين المطالبين بالتزام التهدئة وقبول الحصار فى آن دون امتعاض. إن كانت مصر قد أخفقت قبل بدء الحرب على غزة فى تحقيق أهدافها، فإن بطء دبلوماسيتها وسوء إدارتها للأزمة استحالا عناصر رئيسية فى المشهد المأساوى الراهن. بدت القاهرة خلال أيام الحرب الأولى منهكة وكأنها افتقدت القدرة على إسماع الآخرين صوتها، فلا إسرائيل تجاوبت مع مقترحاتها ولا حماس أنصتت، ودخلت على الخط قوى إقليمية ودولية لتزاحم مصر فى الوساطة وطرح المبادرات. واليوم، حتى وإن نجحت المبادرة المصرية فى إنهاء عدوان إسرائيل وإلزامها هى وحماس بتهدئة طويلة، فإن شيئاً لن يتغير، إن بشأن إنجاز المصالحة الفلسطينية والحيلولة دون تكريس الانفصال الخطير بين الضفة وغزة ،أو لوضع حد للكارثة الإنسانية والحياتية فى القطاع، وكلاهما قنابل موقوتة موجهة ضد الفلسطينيين ومصر وأمنها القومى.