تخفى وراءها الكثير من الآهات والأَنَّاتْ.. هكذا هى جبال سانت كاترين الشاهقة، التى لم أكن أدرى أن هدوءها، ربما يحمل وراءه عاصفة عاتية من الهموم. سانت كاترين ليست الدير وجبل موسى وقبيلة الجبالية فقط، وليست أشجار اللوز والتفاح والزيتون فحسب، إنما هى فى الحقيقة بشر جاءوا إليها من آخر الدنيا بحثًا عن لقمة عيش أو زيادة فى الدخل.. توهموا أنها قد تكون ملاذًا لهم من ضغوط قاهرة القلوب التى تقهر الأخضر واليابس. أحمد عبدالنبى، ابن المنوفية، يعمل مدرسًا بالتعاقد، ترك والدته وخطيبته وجاء موفدًا من وزارة التربية والتعليم ليُعلم الأطفال فى كاترين، بدأ حديثه قائلا: «تعاقدت مع الوزارة فى محافظة جنوبسيناء منذ 2005، كان المرتب وقتها 173 جنيهًا، أريد أن أعرف ماذا أفعل بها فى هذه الأيام.. أركب مواصلات من كاترين لمدينتى ب 100 جنيه والباقى أكل وشرب، ده غير إنهم بيقبضونا كل 5 شهور أصلهم بيعملوا لنا جمعية علشان خايفين نصرف فيحوشوا لينا». ويكمل: «المهم بعد ال 30٪ اللى صرفها الريس زاد المرتب فأصبح 346 جنيه، طيب المدرس المتعاقد تحت فى الدلتا بيقبض نفس المرتب يبقى إيه الفرق؟ والسؤال أنا إيه اللى جابنى هنا فى كاترين؟ الإجابة: أملاً فى أن يزيد مرتبى وهذا حقى بدل الإقامة وبدل السفر وبدل الطبيعة المفروض ده بفلوس لكن الحمد لله لا بناخد أبيض ولا أسود. والمفاجأة إن البدلات دى اللى بياخدها المتعاقدين على بند 2/3 وإحنا متعاقدين على بند 4.. وإحنا ما نعرفش حتى الفرق بينهم، بس كل اللى أعرفه إن إحنا بنشتغل من غير تثبيت ولا منحة ولا زيادة، خلاص بقى يعدمونا فى مكان عام، وأنا حالى زى حال كل الشباب، خطبت بنت وافتكرت فى يوم من الأيام إنى هتجوزها، بس الظاهر إنى همشّيها خطوبة، بس أمى بتقبض معاشها ولما بروح لها بتدينى فلوس علشان أجيب هدية لخطيبتى، لأ وكمان والحمد لله عندى مشاكل فى الكلية وبصرف علاج ب 80 جنيه فى الشهر». «كل ده كوم واللى هقوله لك كوم تانى» هكذا أضاف - وتابع: «إحنا قاعدين فى استراحات حكومية بندفع لها إيجار 35 جنيه فى الشهر والكهربا والغاز على حسابنا وياريتها آدمية» طلب منى أحمد أن أزوره فى الاستراحة لأرى بعينى، والحق على الفور تحركنا معه لأفاجأ بأن المكان الذى يعيش فيه المدرسون فى سانت كاترين لا يرقى لأن يكون حظائر للحيوانات حتى إن الحظائر - بلا مبالغة - أفضل بكثير.. ما رأيته يفوق الوصف لماذا تتعامل الوزارة والحكومة كلها مع الناس بهذا الشكل.. ثم يطالبونهم بأداء واجباتهم وهى التدريس؟ بأى منطق وبأى حجة وتحت أى بند نطلب من هؤلاء البشر الذين دُفنوا وهم على قيد الحياة وفى عمر الزهور واجبات ونحن لا نعطيهم حقوقهم؟ وكما قال لى «أحمد عبدالنبى»: «الدنيا اتقلبت على المدرس المتعاقد، اللى ضرب الطفل فمات، طيب ادرسوا حالته، هى الدولة وفرت له حاجة ب340 جنيه يعملوا إيه فى الشهر يا اخوانّا ده أنا حاسس إن الزبال اللى بيشتغل باليومية أحسن منى وأنا اللى درست وتعبت وذاكرت ونجحت علشان فى الآخر أعيش بالشكل المهين ده.. حرام واللّه حرام». أما أسامة أبو عامر فحاله يختلف قليلاً عن أحمد عبدالنبى، فهو متزوج وله طفلة وقد اصطحب أسرته معه إلى كاترين، أسامة متعاقد أيضًا مع وزارة التربية والتعليم ويعمل نهارًا فى المدرسة ويتسلم وردية مساء فى الفندق الذى يجلس فيه «عامل للريسبشن»، زوجته هى الأخرى تعمل لأنه - كما قال - «القفة اللى ليها ودنين بيشيلوها اتنين».. والضغوط تلزمنا أن تعمل زوجتى ولكن فى مدينة سانت كاترين لا يوجد حضانة للأطفال محترمة وجيدة، وأضاف: المكان الذى يطلقون عليه حضانة غير نظيف وغير آمن بالمرة، ولا توجد مواصلات.. وأنا علشان أنتقل من مكان لآخر أضطر للركوب فوق سيارات الخضار أو عربات نقل المياه وساعات كتير فوق سيارات الزبالة، وإسكان مبارك للشباب أنشئ فى كل المناطق إلا مدينة سانت كاترين حتى التليفونات بتتقطع بالأسابيع وساعتها بجد بنشعر بأننا محاصرين ومعزولين عن العالم كله، وكل حاجة هنا أسعارها نار مش عارف ليه، الأجانب من السياح بياكلوا فى الفنادق.. كيلو الجوافة ب 6 جنيه والبرتقال ب 5 والموز ب 7 جنيه.. إحنا تعبانين ومش عارفين ليه الدولة مش بتهتم بمدينة لها خصوصية شديدة زى سانت كاترين. طيب نروح فين ونشكى لمين..؟ مالناش غير ربنا هو السامع والشاهد.