كان اللّه فى عون الرئيس مبارك. الذى اكتشف أن عليه القيام بنفسه بالدفاع عن نظامه ونفى الاتهامات الموجهة إليه بالتواطؤ مع إسرائيل وشرح وجهة النظر المصرية، سواء فى خطاب مباشر يوجهه للشعب والشعوب العربية، ثم فى تصريحات صحفية متتالية، فإنه بذلك، يكشف عن عدد من الحقائق، أولاها: فشل نظامه ممثلاً فى جهازه الإعلامى، وحزبه فى إقناع الناس بمواقفه وسياساته، وأنهما فى جانب، والشعب فى جانب آخر، وثانيتها: أن ما ردده كثيرون عن وجود مجموعة تحيط بالرئيس تمنع عنه الحقائق، التى قد تزعجه معرفتها، يصعب الآن تصديقها، لأن هناك جهات تنقل إليه الحقائق كاملة، وأما اتخاذ القرارات نحوها، فإنه مسؤولية الرئيس وإلا لما أسرع باتخاذ زمام المبادرة للشرح والتوضيح بعد أن أدرك حجم الانهيار الذى حدث لسمعة النظام ومكانته كما أطلعته عليه الأجهزة. وأما ثالث الحقائق وأخطرها، فقد كانت اعترافه بطريقة غير مباشرة، بأن مصر أصبحت مكبلة بقيود تحد من قدرتها على التصرف عندما شرح - خاصة فى حديثه مع الصحفيين المنشور فى صحف السبت الماضى، عن أسباب عدم فتح معبر رفح بقرار من مصر، لكسر الحصار الإسرائيلى على غزة، بأنه سيلبى سياسة إسرائيلية تستهدف إلقاء عبئها على مصر، وفصلها عن باقى الأراضى الفلسطينية، ثم إلقاء عبء ما تبقى من الضفة الغربية على الأردن. وبالتالى إنهاء القضية الفلسطينية. وأن المعبر يخضع لاتفاق دولي، يتضمن وجود مراقبين من السلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبى، ومراقبة إسرائيلية أيضًا، لضمان عدم تهريب الأسلحة، وبعد استيلاء حماس على غزة كاملة وإنهاء وجود السلطة فيها، وطرد مندوبيها من المنفذ، وانسحاب المندوبين الأوروبيين تغير الوضع تمامًا، أما بالنسبة للحالات الإنسانية، فإن مصر فتحت المعبر. والذى يهمنا فيما قاله الرئيس بعض الجمل التى أوضحت العنصر المهم فى الموضوع كله، وهى: «لابد إسرائيل تشوف إيه اللى داخل، هل داخل أسلحة أو ذخائر أو ممنوعات». «نحن نفتح المعبر للحالات الإنسانية ونخطر إسرائيل قبل المرور حتى لا يُساء الفهم، أو يزعموا أننا نسمح بدخول أسلحة أو ذخائر أو ممنوعات». ومن الغريب أن الجميع لم يلتفتوا إلى هذه الإشارات رغم وضوحها، وتفسيرها للموقف المصرى المرتبك، والذى يتراوح ما بين الخوف والحذر والإحساس بالإحراج أمام أمريكا والاتحاد الأوروبى وإسرائيل، بسبب اتهام مصر، مباشرة وتلميحًا بأنها تهرب أسلحة إلى حركة حماس. وكنا قد ذكرنا فى العدد الماضى بواقعة نشر إسرائيل صورًا لضباط مصريين يسلمون أسلحة للفلسطينيين وتثبت تهريب أسلحة عبر الانفاق، ووصل للقاهرة إيهود باراك وزير الدفاع واجتمع مع الرئيس وأطلعه - كما نُشر - على ما تحت يد إسرائيل من أدلة عن ضلوع مصر فى التهريب، وهو ما نفاه مبارك، بل اتهم إسرائيل بتهريب أسلحة لمصر، وكانت مخاوف إسرائيل تتركز على احتمال تهريب صواريخ أكثر تطورًا من صواريخ القسام محلية الصنع، وصواريخ مضادة للدبابات.. وقد تصاعدت هذه الأزمة وانتقلت لأمريكا وللكونجرس. وجاءت وفود منه لزيارة رفح وتفقد الحدود ومعاينة الأنفاق وتم التهديد بوقف المعونات إذا استمرت عمليات التهريب وهنا اعترضت مصر بأنه إذا حدث تهريب فمن وراء ظهرها، ولأن قوات الشرطة المسموح لها بإبقائها لمراقبة الحدود الطويلة غير كافية من ناحية العدد - سبعمائة وخمسون جنديًا - ومن حيث التسليح - رشاشات خفيفة - كما نصت على ذلك اتفاقية السلام مع إسرائيل، وأنه لابد من إدخال تعديلات عليها بالسماح لزيادة عدد القوات، وهو ما رفضته إسرائيل، وكل ما وعد به الأمريكيون إمداد مصر بأجهزة مراقبة متطورة، وحتى تنفى مصر عن نفسها الاتهامات التى بدأت تحاصرها، قامت بتدمير عدد من الأنفاق، التى كشفتها، لكن ذلك، لم يقنع الأمريكيين والإسرائيليين، وهو ما تكشف بعد بدء إسرائيل مذبحتها ضد غزة، والبحث عن إيقاف العدوان والتوصل إلى تسوية. فجأة وجدت مصر نفسها فى وضع غريب، فبينما تركز حملتها الدعائية ضد سوريا وإيران وحزب اللّه، وحماس، وقطر - على البيعة - كما يقولون، وتتهمهم بإشعال الموقف، أصبحت هى - وليس غيرها - موضع اتهام غير مباشر ولكنه صريح، بأنها وراء حماس وتهريب الأسلحة المتطورة إليها، والاتهام واضح من أحد الشروط التى وضعتها إسرائيل والرئيس بوش ووزير الخارجية البريطانى والاتحاد الأوروبى، وهو وضع آلية لمنع تهريب الأسلحة لقطاع غزة، والتهريب لا يمكن أن يكون عبر الأراضى الإسرائيلية التى تحيط بغزة، أو عبر البحر الذى تحاصره البحرية الإسرائيلية، وإنما عبر الحدود المصرية، وإن كان ممكنًا بطرق ما الإفلات من الحصار البحري، لكنها عملية غير مأمونة.. وهكذا يجد النظام المصرى نفسه فى موضع الاتهام بأنه يدعم حماس بالأسلحة، وهى منظمة تصنفها إسرائيل وروسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبى بأنها إرهابية، وبأنه يخرق معاهدة السلام مع إسرائيل، وقد يترتب عليها وقف أمريكا معونتها السنوية التى قررتها لمصر مقابل توقيعها عليها، أو - وهو احتمال بعيد - قيام إسرائيل بخرق المعاهدة بدورها، ودفع قواتها لاحتلال رفح المصرية، ووضع مصر فى موقف حرج.. وطبعًا مثل هذه الاحتمالات، من شأنها إدخال الخوف إلى قلب أى مسؤول.. وقد يدفعه لنفى الاتهام بتهريب الأسلحة إلى المبالغة فى إظهار الميل للموقف الإسرائيلى، وهو للأسف، ما حدث من مصر، وأدى إلى الإساءة لكرامتها ومكانتها وأضفى الشكوك على حقيقة مواقفها، خاصة أن هناك ما يمكن أن نسميه اللوبى اليهودى.. أو جماعة الضغط الإسرائيلى، - سمها كما تشاء - داخل النظام وحزبه، المعادية لارتباط مصر بأمتها العربية، والتى أثبتت ولاءها المطلق لإسرائيل وتفضيلها على الشعب المصرى بسرقة الغاز المملوك له، وإعطائه هدية بسعر رمزى لمساعدة محدودى الدخل من الإسرائيليين.