حبالنا الهشة المتآكلة لم تعد قادرة على حمل «غسيلنا القذر»، الذى تراكم أكواماً بفعل سياسات عرجاء عاجزة، ومواقف خاضعة خانعة، لا يرى أصحابها أبعد من تحت أقدامهم، ولا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة، فكان من الطبيعى أن يسعى الرافضون لهذا العرج والعجز إلى نشر ذلك الغسيل خارج مصر. ومن العجب أن ينسى أستاذ قانون محنك مثل الدكتور فتحى سرور ما تعلمه وعلمه عن الفارق الكبير بين النظام الحاكم والشعب المحكوم، لاسيما إن كان نظاما فاسدا مستبدا، ثم يصرخ من فوق مقعده المسنود على أكتاف الشعب بحكم الدستور، ويقول لأحد النواب المستقلين: سمعتك ورأيتك تتحدث على محطة فضائية خارجية تشتم بلادك، وسيتم تحويلك إلى لجنة القيم. ولا يجهل سرور ثلاثة أمور مهمة، بحكم معرفته، لكنه ربما يتجاهلها بفعل ارتباطاته السياسية ومنافعه. الأول أنه ليس من المعقول أن يتم رهن مصر «الدولة» وعمرها أكثر من سبعة آلاف سنة وستبقى خالدة إلى قيام الساعة بمصر «النظام» وعمره سنوات ومآله إلى زوال، وأن يتطابق الناس مع حكم مغبونين منه فى كل قرار يتخذه، حتى لو كان على حساب المصلحة الوطنية المصرية فى مداها البعيد أو الاستراتيجى، ولحساب مصلحة ضيقة لا تخرج عن إقرار معادلة «الاستمرار والاستقرار»، التى جعلت بلدنا فى ذيل الأمم، وترتيب انتقال السلطة، الذى يجرى على قدم وساق. وبهذا يصبح من الضرورى أن يجد العالم العربى، الذى يعول على مصر كثيرا وطويلا، آراء أخرى لدى المصريين غير رأى حكامهم فى قضية العدوان الصهيونى الغاشم على أهلنا فى غزة الصامدة الصابرة، ولولا هذا الاختلاف لخسرت مصر كثيرا من قوتها الناعمة وسلطانها المعنوى وظهرت فى مظهر من تنصل من قضية فلسطين، أو حتى من تواطأ، لا قدر الله، حسبما يرميها البعض، مستندين إلى ما نسب إلى الرئيس الفرنسى من أن الرئيس مبارك قال له «إن حماس لا ينبغى لها أن تنتصر فى هذه المعركة»، وهى المسألة التى نفتها مصر الرسمية. والأمر الثانى هو أنه لا يخفى على الدكتور سرور أن الإعلام المصرى الرسمى مغلق أمام صاحب أى رأى مخالف، وعاجز عن عرض كل ألوان الطيف المصرى، ومقتصر فقط على أبواق السلطة، الذين لا هم لهم ولا شغل إلا إرضاء أولى الأمر، بحثا عن منافع زائلة، ولذا يصرخون بما يريد السلطان أن يسمعه، وبعضهم يردد ما لا يقتنع به طمعا فيما لن يحصل عليه. وزاد هذا الأمر مع الإعلان عن اقتراب موعد تغيير قيادات الصحف «القومية»، فالقائمون عليها أطلقوا العنان للنفاق كى يبقوا فى كراسيهم، والطامعون فى هذه الكراسى نازلوهم بقوة، أملا فى أن يزيحوهم ويحلوا محلهم، فراحوا يستفيضون فى الحديث عن أن المشكلة فى عجز الإعلام الحكومى عن تسويق السياسات والمواقف الرسمية الناجحة. والأزمة الأخيرة ساهمت كثيرا فى تعرية أقلام هؤلاء، وبينت أن معارضتهم الخفيفة ليست سوى ذر للرماد فى العيون، ورغبة مفضوحة فى نيل كل شىء، رضا السلطة واحترام الناس. وبعض هؤلاء راح يتحدث عن «حب الحياة» وكأن الفلسطينيين هم الذين اختاروا الحروب والموت والدمار، وكأنهم هم الذين سرقوا وطن الصهاينة، وكأن إسرائيل بلد محب للسلام يدافع عن نفسه فقط. وبعضهم حمل حماس المسؤولية، ونسوا أن وزير الدفاع الإسرائيلى أكد فى اليوم الأول للحرب الراهنة أن التخطيط لها كان يتم منذ عدة أشهر. ويدرك سرور أن السلطة التفتت إلى الإعلام المصرى الخاص فضيقت عليه الخناق، وتدخلت فى صنع البرامج واختيار الضيوف، وزرعت مخبريها بين العاملين فى هذه المحطات، بعضهم ظاهر كشمس يوليو، وبعضهم خفى مندس كالخلايا السرطانية. ولكل هذا لا يجد المختلفون مع النظام الحاكم سوى الإعلام الخارجى، الذى يسعى وراء أهل الخبرة والمعنيين ومن لديهم معلومات وآراء عميقة ومغايرة. ولو أن أعضاء مجلس الشعب وجدوا التليفزيون والإذاعة مفتوحين أمامهم لما اضطروا إلى الذهاب إلى المحطات الأجنبية، الأكثر مشاهدة واحتراما وتأثيرا. ومع هذا فإن الظهور فى الإعلام الخارجى ليس جريمة، فالمدافعون عن الحزب الوطنى يطلون علينا من شاشات خارجية أيضا. ومع ثورة الاتصالات لم يعد هناك إعلام داخلى وآخر خارجى، فالعالم كله بوسعه أن يشاهد القنوات الفضائية المصرية، حكومية وخاصة، وهذا ليس خافيا على رئيس المجلس الموقر. أما الأمر الثالث فهو أن الدكتور سرور يعلم جيدا أن أحدا لم يطلب من مصر أن تخوض حربا، لا حماس ولا غيرها، ولا أحد فى الوقت نفسه بوسعه، حتى لو حاول بكل جهده، أن يطمس تاريخ مصر المجيد فى مصارعة الكيان الصهيونى البغيض، أو يتغافل عن أن العقيدة القتالية للجيش المصرى لا تزال ترى فى إسرائيل «العدو الأساسى»، ولم تنحرف أبدا إلى ما انحرفت إليه السياسة ومن يدور فى فلكها من إعلاميى السلطة لتحل إيران فى هذا محل إسرائيل. وبالطبع فإن لإيران أهدافها ومشروعها، الذى يجب أن نواجهه إن كان يريد النيل من أمننا القومى، لكن علينا أن نتدبر فى الطريق الأمثل لهذه المواجهة: هل هو التفاعل الخلاق، أم الصدام الحتمى. ولنختر باستقلالية دون إملاء من أمريكا أو ممالأة لإسرائيل. وفى كل الأحوال لا يسوق لنا أحد ما يجعلنا نستبدل عدوا دائما بخصم عارض. يا رئيس مجلس الشعب، الشعب الذى تمثله غاضب من محرقة غزة، وإغلاق معبر رفح، وأنت تنساه وتتذكر وتخلص وتعمل بجد واجتهاد لصالح سلطة هادئة، لا يهمها إلا الاستمرار والتوريث حتى لو ذهبت المصلحة الوطنية إلى الجحيم.