كانت معركة العقاب التى وقعت عام 1212 بين تحالف ملوك إسبانيا ضد الموحدين قد كتبت صفحة جديدة فى تاريخ الأندلس. وقد ظلت آثار الهزيمة الساحقة التى منى بها المسلمون تطاردهم وتؤثر فى معنوياتهم طيلة ما تلاها من سنوات، حتى إننا نستطيع القول إنها كانت بداية الانهيار الحقيقى للأندلس، وتساقط ممالكه وإماراته الواحدة تلو الأخرى. عندما احتشدت جيوش قشتالة وليون مدعومة من البابا الذى حرص على منحها الصفة الصليبية استعداداً للانقضاض على إسبانيا المسلمة، قام الخليفة محمد الناصر الموحدى بالعبور إلى الأندلس فى جيوشه رداً على هذا التحدى السافر فضاعف حشوده فى منطقة جيان. وكان الجيش القشتالى قد استكمل عدته ووفد لمؤازرته سيل من الأحبار والفرسان، والتقى الجيشان فى هضبة العقاب أسفل جبال (سييرا مورينا) وكانت الموقعة المشؤومة التى هُزمت فيها الجيوش الموحدية شر هزيمة ومُزقت شر ممزق. الأمر الجدير بالتدبر والذكرى هو أن ثلاثين سنة فقط فى عمر الدولة الإسلامية فى الأندلس.. ثلاثين سنة هى التى حدث فيها كل هذا الانهيار. الدولة التى حكمت شبه الجزيرة الإيبيرية لسبعة قرون من الزمان فقدت أكثر من سبعين بالمائة من أراضيها وأحوازها وثغورها وقلاعها وحصونها فى ثلاثين سنة. لهذا فقد حق للإسبان أن يحتفوا بالملك فيرناندو الثالث ويعدّوه بطلهم الكبير قاهر الأندلس، الذى كانت السنوات الثلاثون الحافلة بالانتصارات كلها تحت حكمه. كان الناس فى قرمونة بعد سقوط بلنسية عام 1238، ومن قبلها قرطبة التى سقطت قبل سنتين عام 1236، قد أصبحوا يتوقعون سوء المصير، وأحزنهم بشدة موقف السلطان الموالى للأعداء، وخنوثة وزيره البعرور وانسحاقه الشديد أمام الملكة فيولانتى كما أسلفنا. والغريب أن الوزير بعرور فى تبريره لموقفه الرخيص قد أدان أهل بلنسية وحمّلهم مسؤولية العدوان الواقع عليهم، واتهمهم زوراً بأنهم استفزوا الجيش الأراجونى بدفاعهم عن أنفسهم، وكأنه كان يتعين عليهم أن يستسلموا للملك خايمى وجنوده وينتظروا الذبح! ومما يزيد الأمر أسى أن كل من دعا للجهاد تم التشهير به وسبّه من جانب الأوباش الذين أطلقهم الوزير بعرور، فألصقوا بالشرفاء والوطنيين كل نقيصة، ونسبوا لمن يطلب مقارعة الفرنجة ورد العدوان أنه يعرض ديار المسلمين للخطر، وكأن الأمان هو فى إعانة العدو القوى والتخلى عن الشقيق الضعيف، بل والمساهمة فى حصاره وخنقه ومنع المؤن والسلاح والدواء عنه! لم ينس البلنسيون وهم يجمعون أغراضهم ويودعون وطنهم للمرة الأخيرة فى رحلة الشتات أن مدينتهم لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فمدينة قرطبة التليدة ذات التاريخ العظيم قد سقطت أيضاً بسبب تناحر ابن هود وابن الأحمر على المُلك بعد أن ضحّيا بالحاضرة الإسلامية على مذبح أطماعهما الشخصية وتشبثهما بكراسى الحكم. فى ذلك الوقت وقع خبر هروب المطجن البصاص على السلطان البيكيكى كالصاعقة، وخشى أن يكون لهذا الحدث تداعيات خطيرة على علاقته بإمارات خليج البيسان، وبالذات إمارة الساحل البندقى وأميرها فارس المختوم الذى قد يسىء تفسير الأمر ويتصوره تهاوناً من جانب السلطان مع قاتل أثيم اعتدى على الإمارة الهادئة ونفذ فيها جريمة شنعاء. فثار ثورة عظيمة على وزرائه ثم دعا إلى تكتم الأمر وعدم الإعلان عنه بين الناس، وأصدر أوامره للسيد أبوالحسن المراكبى رئيس الجندرمة بسرعة العثور على المجرم الهارب وإلا لقى مصيراً أسود، فقام هذا بالقبض على شمروخ قائد سجن الأدغم، واعترف جنوده بكل شىء وأقروا بما كان فأودعوا جميعاً السجن وضاعت أحلام شمروخ فى الثراء. وأطلق المراكبى جنوده فى جميع أنحاء المدينة يسدون مداخلها ومخارجها ويضعون الأكمنة على الطرق الرئيسية، وتم القبض على عائلة المطجن بأكملها واحتفظوا بهم كرهائن حتى يقوم المطجن بتسليم نفسه، وهو الأسلوب الذى درجت شرطة الولاية على القيام به مع المطلوبين، وكانت نتائجه فى الغالب باهرة، خاصة أن معظم المطلوبين كانوا من الشرفاء والأبرياء الذين لا يحتمل أحد منهم أن تتم إهانة أمه أو أبيه، أما بالنسبة للمطجن البصاص فالأمر كان مختلفاً، ولم يكن لهذا الحل أى فائدة، فالرجل يملك من الخسة والأنانية ما يجعله يضحى بالعائلة كلها ليحظى هو بالأمان! عندما سمع همام بن عليش الكوارشى بما حدث اغتم غماً عظيماً لفرار القاتل الذى استأجره وبقائه وحده رهن الحبس، غير أن السحلاوى قد طمأن أباه الكوارشى الكبير بأن ما حدث هو فى صالح همام، بل قل هو هدية من السماء، إذ إن اتهام ابن الكوارشى قائم فقط على شهادة المطجن وباختفائه تتم هلهلة القضية فتضيع ولا يتبقى منها شىء. كان المطجن بعد أن نجا من الحريق الذى أطفأه المطر الغزير، وبعد انصراف الجنود الذين يئسوا من العثور عليه قد هام على وجهه يضرب فى الأرض وقد أحس أن الأقدار تقف إلى جانبه حتى وصل إلى منطقة جبلية عُرفت ب «كهف العفريت» قيل إن الجان والعفاريت يسكنونها، كما شاعت بين الناس أسطورة الحيوانات متعددة الرؤوس التى تخرج منها فتختطف الفرائس وتعود لتلتهمها داخل الكهف، وهو الأمر الذى حدا بالأهالى إلى تجنب الاقتراب منها، بل والارتعاد لمجرد ذكر اسمها. كان المطجن يقضى نهاره نائماً ثم يهبط على تخوم المدينة بعد أن يجن الليل ويسطو على أحد المنازل فيسرق ما تيسر من طعام، أو يعترض سبيل بعض العائدين ليلاً ويجردهم من ممتلكاتهم ويعود تحت جنح الظلام إلى مخبئه فيقبع بأحد الكهوف التى كان يتشارك فيها مع الخفافيش. وكانت الأيام الرهيبة التى قضاها بالسجن قد زادته توحشاً على توحش فأصبح لا يخاف الكهف المظلم ولا يرهب صحبة الخفافيش، وأصبحت النفس البشرية لا تساوى عنده شيئاً، فسهل عليه فى سبيل الحصول على الطعام والماء أن يرتكب جرائم قتل لمن يعترض سبيله. وكان فى ذلك لا يبالى بتعدد ضحاياه حيث إنهم لن يشنقوه غير مرة واحدة، وكان يتم العثور على جثث ضحاياه فى الصباح ويفشل العسس فى العثور على الجانى. ويبدو أن البقاء بكهف العفريت قد أصاب المطجن بما يشبه اللوثة، وإحكام العسس الحصار حول المدينة للقبض عليه دفعه إلى اليأس من فكرة استخراج الكنز وعبور الحدود، فانتابته فكرة مجنونة سيطرت عليه سيطرة تامة، وهو من جانبه أحس بالانتشاء للفكرة التى جعلت عينيه تلمعان من الإثارة، فانتظر حلول الليل كالعادة وهبط إلى المدينة ومضى يتحسس خطاه فى دروبها، وكانت لديه حدة بصر فى الظلام كرفاقه الخفافيش، فوصل إلى المنطقة التى يقطنها أثرياء المدينة وأعيانها، وقصد قصراً بعينه كان يعرفه ويحفظ خريطته عن ظهر قلب، ولم يتردد فى أن يتسلل خلف أحد الحراس ويصرعه فى لحظة قبل أن يعتلى السور ويهبط داخل القصر، فيجوس فى ممراته ويقترب من إحدى الغرف ويفتح الباب بكل هدوء، ثم يتوجه نحو الفراش حيث ترقد غادة حسناء فيضع يده على فمها لئلا تصرخ، وعندما تنتبه الفتاة وتفتح عينيها فى رعب يعاجلها بضربة تفقدها الوعى ثم يحملها بين يديه ويمضى بها خارجاً، ثم يستولى على أحد الخيول، يعتليه ويغادر قصر الكوارشى ومعه الفتاة التى لم تكن سوى البندرية ابنة الكوارشى وشقيقة همام التى اضطرم قلبه بحبها، وكانت من أسباب ارتكابه جريمة قتل المغنية إيزابيلا بأمل أن يرضى عنه همام ويقبل بتزويجه إياها. وها هى الآن بين يديه والفرس ينهب الأرض نهباً فى الطريق إلى.. كهف العفريت.