بعد أيام قليلة، سوف يتولى أوباما الرئاسة ليجد نفسه محملاً بإرث ثقيل تركته له إدارة ربما هى الأسوأ على الإطلاق فى تاريخ أمريكا الحديث، من حيث ما اقترفته من جرائم فى الداخل والخارج. ورغم أننا فى العالم العربى نعلم الكثير عن التركة البائسة التى سيتركها بوش لأوباما فى مجالى السياسة الخارجية والاقتصاد، غير أن أغلبنا لا يعرف على وجه الدقة حجم الكارثة التى تعرضت لها الديمقراطية الأمريكية نفسها فى عهد بوش الذى لم تكف إدارته عن الحديث عن الديمقراطية فى الخارج، وللأسف صدقها الكثيرون عندنا! فقد حدث فى عهد بوش تقويض منظم للأسس التى قامت عليها الديمقراطية الأمريكية نفسها. فاختل على سبيل المثال التوازن بين المؤسسات لصالح الرئاسة والمؤسسة التنفيذية عموماً بشكل فادح، وانهارت الرقابة التشريعية والقضائية، وتعرضت استقلالية الإعلام لقصف منظم، هذا ناهيك عن التردى غير المسبوق فى حال الحريات المدنية. وسوف تلقى كاتبة السطور الضوء فى هذه السلسلة على بعض تلك الجوانب، ولنبدأ أولاً بما تعرض له الإعلام كونه إحدى أدوات الرقابة. فرغم أن كل الإدارات السابقة سعت لتطويع الإعلام فإن ما حدث فى عهد بوش كان الأسوأ فى الواقع، إذ امتد ليشمل الإفساد والتلفيق بل ترويع الصحفيين، فعلى سبيل المثال يعرف القاصى والدانى اليوم أن إدارة بوش قد أعطت أموالا لصحفيين عراقيين ليكتبوا مقالات «إيجابية» عن الاحتلال فى الصحف العراقية. غير أن تلك الواقعة لم تكن استثناء يتعلق بالحالة العراقية ويرتبط «بخدع الحرب» كما كان يحلو لرامسفيلد أن يقول، فقد ثبت أن رشوة الصحفيين كانت جزءا من نمط متكرر استخدمته الإدارة حتى مع الصحفيين الأمريكيين وداخل أمريكا نفسها. فقد تبين أن إدارة بوش دفعت لعدد من الصحفيين الأمريكيين مبالغ وصل بعضها إلى 240 ألف دولار للصحفى الواحد لكتابة مقالات فى الصحف الأمريكية الكبرى للترويج لسياسات الإدارة الداخلية. بل أكثر من ذلك تبين أن الإدارة أنفقت الملايين لإنتاج تقارير صحفية تم عرضها فى الإعلام الأمريكى باعتبارها تقارير صحفية من إعداد القناة التى تعرضها دون أى إشارة إلى أنها فى الواقع من إعداد الإدارة وإنتاجها، ولا إلى أن الشخص الذى قدمها باعتباره مراسلا كان فى الواقع يعمل لدى الإدارة! وفى الحقيقة فإن إدارة بوش لم تتورع عن ترويع الصحفيين الذين نشروا تقارير تفضحها بهدف ردعهم. فعلى سبيل المثال، حين فجرت «النيويورك تايمز» فضيحة قيام الإدارة بالتنصت على اتصالات الأمريكيين دون إذن قضائى بموجب قرار رئاسى ودون علم المؤسسة التشريعية، خرج وزير العدل بنفسه ليتهم الصحيفة «بتعريض الأمن القومى للخطر» ويهدد الصحفيين والجريدة بالملاحقة القضائية، وتم تحويل الموضوع من قضية تتعلق بانتهاك خطير للدستور الأمريكى إلى قضية أمن قومى تعرضت للخطر بسبب النشر! وقد حدث الشىء نفسه مع صحيفة «الواشنطن بوست» والصحفية التى فجرت فضيحة السجون السرية والتعذيب بالوكالة خارج الأرض الأمريكية. تلك كانت مجرد أمثلة على ما تعرض له الإعلام فى عهد بوش. لكن ما هى حكاية السجون السرية والتعذيب بالوكالة وجوانتانامو؟ هذا هو موضوع المقال المقبل بإذن الله.