يعد ترابط القطاعات الاقتصادية المختلفة أحد أهم السمات المميزة للاقتصاديات الحديثة، وعلى رأسها الاقتصاد الأمريكى، وهو ما وضح أثره بشكل لافت خلال أزمة الرهن العقارى فى الولاياتالمتحدة، حيث أنتجت أزمات أخرى كنتيجة لها، وعلى رأسها أزمة السيارات وأزمة الائتمان، ويبقى فى الانتظار العديد من الأزمات التى ستواجه الاقتصاد الأمريكى فى الفترة المقبلة. ويبدو تأثير نظرية «الدومينوز» واضحا فى الاقتصاد الأمريكى من خلال السقوط السريع لمشتريات السيارات الأمريكية، التى أعلنت عن احتياجها قروضاً سريعة (بلغت حوالى 34 مليار دولار لأكبر 3 شركات)، لكى تتمكن من البقاء فى الأسواق، فضلا عن قروض أخرى أكبر تساعدها عى العودة للمنافسة. وعلى الرغم من أن شركات السيارات الأمريكية كانت تعانى بالفعل فى مواجة مثيلاتها الأوروبية واليابانية، وتعانى جميعها من مديونات كبيرة، فإن توقعات الكساد التى رافقت أزمة الرهن العقارى أدت لتخفيض توقعات الشركات مبيعاتها بنسب اقتربت من 50% فى بعض الحالات، لاسيما مع احتمال عجز آلاف الأمريكيين عن سداد أقساط سياراتهم إذا فقدوا وظائفهم نتيجة للارتفاع المتوقع فى نسب البطالة، أو نتيجة لتقلص دخولهم. واللافت هنا أن أزمة السيارات لن تكون الأخيرة وأن بانتظار الاقتصاد الأمريكى أزمة أسوأ، وهى أن البطاقات الائتمانية، حيث تقدر بعض الدراسات الأمريكية الديون المعدومة لدى البنوك الأمريكية فى قطاع البطاقات الائتمانية بحوالى 200-300 مليار دولار، وهو ما سيدفع تلك الأزمة بالظهور إلى السطح فى وقت قريب، مع رغبة المؤسسات المصرفية فى الحصول على تلك الأموال، لتتلافى الإفلاس. كما ظهرت أزمة أخرى هى الأخطر على الاقتصاد الأمريكى تتمثل فى تدنى ثقة المستثمرين والمستهلكين فى مستقبل الاقتصاد الأمريكى، حيث يشكل العامل النفسى عاملاً مهماً للغاية فى تشجيع الاقتصاد على النمو أو لدفعه للتراجع. وتعد ثقة المستثمرين المتدنية فى الاقتصاد بمثابة إنذار بأنهم سيحجمون فى المستقبل عن توسيع استثماراتهم (وربما تقليصها أيضا) وسيعمل الكثير منهم على نقل استثماراته إلى مجالات آمنة تتعلق بتجارة المعادن النفيسة والأراضى، وهو ما يطلق عليه «الاستثمار الجبان»، ويعتبر هذا النوع من الاستثمارات ضارا بالاقتصادات الوطنية، لأنه يمثل تداول لرؤوس الأموال دون زيادة إنتاجية، وقد يعطى فى كثير من الأحيان بيانات مضللة حول حجم الرواج التجارى فى دولة. ويبرز تأثير نقص ثقة المستهلك فى إحجامه عن شراء العديد من «سلع الرفاهية»، مع الاكتفاء بالسلع الضرورية، نظرا لرغبته فى ادخار أكبر قدر ممكن من الأموال فى ظل حالة عدم اليقين التى تسود الأسواق، وهو ما يصيب الأسواق الاقتصادية بالمزيد من الركود، ويخرج المزيد من الأموال من السوق لحساب الادخار، لاسيما أن هذه الأموال المدخرة لن تجد من يقترضها فى ظل امتناع المستثمرين عن المغامرة بدخول مشروعات جديدة وتشدد البنوك فى إجراءاتها فى منح القروض. ويبدو واضحا هنا أن الأزمة العقارية التى تم وصفها ب«المالية»، تحولت بوضوح إلى أزمة «اقتصادية» (الأزمة المالية تكون نتيجة لخلل فى التعبير النقدى عن النشاط الاقتصادى، بينما الاقتصادية تتمثل فى وجود اختلالات هيكلية فى الأسواق الاقتصادية). وتبرز أهمية هذا التحول من خلال عجز الاقتصاد الأمريكى عن تدارك الأزمة من خلال استخدام الأدوات النقدية التى تشمل استخدام سعر الفائدة والمعروض النقدى، لاسيما مع محاذير استخدام تلك الأداة وما تثيره من مخاوف الدخول فى فترات تضخم، بل عجز الأداة الاقتصادية من خلال خطط الإنقاذ، التى تشكل دعماً مباشراً للعديد من الصناعات عن استيعاب الأزمة. وتتأكد من خلال التحولات الأخيرة فى الأزمة الاقتصادية أن آفاق تلك الأزمة لم تتضح بعد، وأن الاقتصاد الأمريكى –والعالمى أيضا- لم يصل لما يسميه الاقتصاديون «نهاية النفق المظلم» أو «آخر نقطة فى منحنى الانهيار»، وهو ما يرجح أن الأزمة الاقتصادية لن تنتهى حتى خلال عامين أو 3 وفقا لتقديرات بعض السياسين الغربيين، بل إنها قد تمتد لعقد كامل من الزمن، وهو ما تؤكده التصريحات الأخيرة الصادرة عن خبراء صندوق النقد الدولى بأن التوقعات بتدارك الأزمة الاقتصادية الحالية سريعا مخالفا لأزمة الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى قد تكون «مفرطة فى التفاؤل».