أحد توابع زلزال الأزمة المالية العالمية وأثرها على مصر هو ما نشهده من العودة للاهتمام بالمشروعات الصغيرة وبضرورة تيسير حصولها على التمويل من البنوك. ولكن مع اتفاق الجميع على الدور الحيوى الذى يمكن أن تقوم به هذه المشروعات، وأثر ذلك على تحسين توزيع الدخل وثمار التنمية فى المجتمع، فإن هناك اختلافا شديدا حول ما يعيق تمويل البنوك لها. أما الاتفاق فمصدره أن تجارب العالم الصناعى قد أكدت أن النهضة الصناعية لا تتحقق ولا تؤتى ثمارها الاقتصادية والاجتماعية إلا متى كانت مستندة إلى قاعدة من الصناعات الوطنية الصغيرة والمتوسطة، التى تسمح بتنويع مصادر الدخل، وتشغيل الأعداد الكبيرة، وتوزيع ثمار التنمية الاقتصادية. ولكى تتمكن الصناعات الصغيرة من النمو وتصبح قادرة على المنافسة والاستفادة من الفرص المتاحة فى الأسواق، فإنها بحاجة للحصول على التمويل من القطاع المصرفى، وإلا قضى عليها بالفشل أو بالبقاء إلى الأبد فى إطار العمل الفردى المحدود. كل ما سبق محل اتفاق بين الجميع، ولكن إلى هنا ينتهى الاتفاق ويبدأ الخلاف على ما يلزم عمله لتيسير حصول المشروعات الصغيرة على التمويل. أصحاب الصناعات الصغيرة يرون أن البنوك غير راغبة فى تمويلهم بسبب انحيازها الطبيعى للتعامل مع المشروعات الكبيرة، ويطالبون بتخفيف القيود الرقابية على التمويل المصرفى، والنزول بأسعار الفائدة، وحث البنوك على توجيه المزيد من الأموال المودعة لديها نحو هذا النوع من المشروعات. أما أصحاب البنوك من الجانب الآخر فيؤكدون فى كل مناسبة أن لديهم استعدادا كاملا لتمويل المشروعات الصغيرة متى كانت مستوفية للشروط التى تتطلبها قواعد الإقراض السليم، وأنه لا يوجد لديهم انحياز نحو الصناعات الكبيرة. فمن منهما على حق؟ فى تقديرى أنه لا يوجد جانب مصيب وآخر مخطئ، بقدر ما هناك فجوة بين الجانبين أو حلقة مفقودة دائما فى الحوار بينهما. هذه الفجوة مصدرها أن البنوك محقة فى التمسك بعدم الإقراض إلا لمن تتوافر لديهم المقومات والشروط السليمة، والقول بغير ذلك يعنى العودة للتمويل غير المحسوب، ولتراكم الديون الرديئة، والمجازفة بأموال المودعين. كذلك فإن النزول بالمعايير الرقابية غير جائز، خاصة فى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. البنوك إذن محقة فى تمسكها بأن يكون الإقراض وفقا للقواعد الآمنة والسليمة. على الجانب الآخر، فإن الصناعات الصغيرة محقة أيضا فى أن الوفاء بمتطلبات التمويل المصرفى غير ممكن لأن ظروف المستثمر الصغير بطبيعتها لا تجعله قادرا على تحقيق شروط الائتمان التقليدى. فالصناعة الصغيرة فى الغالب لا تتوافر لديها الضمانات العقارية التى يحب البنك أن يرهنها، ولا التاريخ الائتمانى الذى يمكن أن يدعم طلبها، ولا عقود التصدير التى تطمئن البنوك. كذلك فإن هذا النوع من الصناعات قلما تتوافر لديه الإمكانات والمعرفة الكافية بتقديم قوائم مالية أو دراسات جدوى وفقا لمعايير البنوك، بل ولا حتى القدرة على التعامل مع موظفى الائتمان فى البنوك بذات اللغة الفنية والمفاهيم الصارمة. الفجوة إذن مصدرها أن البنوك مستعدة لتمويل من تتوافر فيه شروط معينة، وهذه الشروط يندر أن تتحقق لدى الصناعات الصغيرة. من هذا المنظور، فإنه لا حث البنوك على الإقراض سوف يكون مؤثرا، ولا تشجيع الصناعات الصغيرة على التعامل معها مجديا، ولا حتى انخفاض أسعار الفائدة حاسما فى القضية، لعدم توافر شروط الائتمان من الأصل. فما الحل؟ الحل فى رأيى يكمن فى الاتجاه إلى أصل المشكلة والتعامل معها، أى التعامل مع ما يساعد الصناعة الصغيرة على أن تصبح مؤهلة للحصول على التمويل المصرفى. هذا ليس اقتراحا نظريا، بل يعتمد على توفير البيئة القانونية، التى تمكن البنك من الاطمئنان فى التعامل مع المستثمر الصغير. تحديدا يدخل فى هذا الإطار تعديل قانون الإفلاس، لكى يمكن من سرعة التنفيذ على الأصول عند التعثر، بما يشجع البنوك على التعامل مع الصناعات الصغيرة، ويدخل فى ذات الإطار أيضا تطوير نظام رهن الأصول بما يسمح بالاقتراض بضمان أصول منقولة، مثل الآلات والمعدات وليس العقارات المسجلة فقط، لأن صاحب الصناعة الصغيرة فى الغالب لا تتوافر لديه سوى المعدات التى ينتج بها، ووضع قواعد أكثر سهولة فى إعداد القوائم المالية للمشروعات الصغيرة، وتوفير التدريب اللازم لمساعدتها على التعامل مع البنوك. هذا من جانب المشروعات طالبة التمويل. أما من جانب البنوك فهناك ما يمكن عمله أيضا، وهو إيجاد البنية المؤسسية القادرة على التعامل مع المشروعات الصغيرة. صحيح أن هناك تجارب رائدة للبنوك التجارية التى أنشأت وحدات خاصة للإقراض الصغير، تتعامل بمستندات بسيطة، وإجراءات سريعة نسبيا، ولكنها فى النهاية تجارب محدودة للغاية لا تؤثر فى مستقبل اقتصاد قومى، وغير كافية لإحداث نقلة نوعية فى حجم تمويل المشروعات الصغيرة. ما ينقصنا هو أن يوجد نظام للترخيص والرقابة على مؤسسات مالية تتخصص فى الإقراض الصغير، وتكون بذلك وسيطا بين البنوك وبين أصحاب المشروعات الصغيرة، وهو دور تقوم به فى الوقت الحالى جمعيات أهلية ومنظمات خيرية غير خاضعة لأى رقابة مالية أو ائتمانية ويختلط لديها العمل التجارى بالعمل الخيرى على نحو غير سليم. تمويل المشروعات الصغيرة ليس هدفا اقتصاديا فحسب، بل هدف اجتماعى وتنموى أيضا، يساهم فى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادى وبين توزيع ثمار التنمية فى المجتمع. ولكن تحقيق التقدم فى هذا الموضوع لن يتحقق بالتشجيع أوبالشكوى، بل بالعمل على سد الفجوة بين ما تطلبه البنوك وما تقدر على تقديمه المشروعات الصغيرة من خلال تطوير البيئة القانونية والرقابية لنشاطها.