ربما تكون الأميرة فاطمة، ابنة الخديو إسماعيل، أقرب الأمثلة إلى الذهن، إذا أردنا فى هذا العصر أن نحدد، بالضبط، الشكل الأمثل الذى يجب أن تكون عليه الصدقة، من جانب القادر تجاه الفقير فى المجتمع. فالأميرة العظيمة حين فكرت فى تقديم خدمة جليلة لأهل بلدها، وكان ذلك فى أوائل القرن العشرين، لم تسارع، كما يفعل قادرون كثيرون غيرها الآن، بوضع بعض المال فى يد كل محتاج يعرفه القادر، أو يصادفه، ليجد به هذا الإنسان البائس قوت يومه، أما كيف يمكن للمحتاج نفسه أن يجد قوت اليوم التالى، فالله وحده أعلم! لم تفكر الأميرة بهذه الطريقة أبداً، واكتشفت، منذ وقت مبكر، أن الصدقة الحقيقية من ناحيتها، كقادرة مادياً فى مجتمعها، هى تلك الصدقة التى تتعامل مع جذور الفقر ذاته، وليس مع الفقير، كشخص فى حاجة إلى مساعدة، إذا ما حصل عليها، فسوف يتبين له فى اليوم الثانى أنه فى حاجة إلى المساعدة نفسها من قادر آخر، وبالتالى فإن المشكلة لم تجد حلاً يتعامل مع جذورها! وقد كانت تلك الأميرة امرأة رائعة حقاً، عندما بادرت إلى المساهمة بمجوهراتها فى إنشاء جامعة القاهرة عام 1908، وكانت، وهى تفعل ذلك، تدرك تماماً أن توجيه ما تملكه إلى تعليم أبناء وطنها تعليماً جيداً، سوف يبعد الفقر عنهم فى المستقبل، وسوف يعالج المرض كمرض فى حد ذاته، ولن يتوقف مثل هذا التوجيه للمال عند حدود التعامل مع أعراض المرض، الذى سوف يبقى قطعاً، والحال هكذا، على حاله! كانت الأميرة، التى لايزال اسمها منقوشاً بحروف من ذهب على مدخل كلية آداب القاهرة، تفهم بعمق، أنه يستحيل أن يكون هناك إنسان متعلم جيداً ثم يكون فقيراً.. يستحيل.. لأنه لا شىء يضمن تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية على أصولها فى البلد، إلا التعليم الجيد، فهو وحده الذى سوف يصنع من صاحبه إنساناً عاملاً لا عاطلاً، وهو وحده أيضاً الذى سوف يجعل صاحبه شريكاً فى ثروة بلده، من خلال ما سوف يعود عليه من دخل حين يعمل فى أى مجال، يكون قد تأهل له مسبقاً، كما ينبغى، عبر مراحل تعليمه! هذه هى الصدقة الحقيقية التى تتطلع إلى الإنسان بوصفه إنساناً وفقط، بصرف النظر عن أى شىء آخر، وهذه هى الصدقة التى على صاحبها أن يستوعب جيداً أن الصدقة يجب ألا تكون بنت اللحظة، وإنما يجب أن تكون ممتدة الأثر، طوية الأجل، موصولة المفعول. وإذا كانت هناك جماعات للبر بالحيوان، فنحن اليوم أحوج الناس إلى وجود جماعات من القادرين بيننا، للبر بالإنسان، جماعات تفهم أن الصدقة ليست عبئاً فى جيب صاحبها، يتخلص منها فى يد أول فقير يقابله، بقدر ما هى صانعة ل«دور» اجتماعى عليه أن يمارسه!