أشكر «المصرى اليوم» التى أتاحت لى أن أتابع وأتعرف على كل ما يحدث فى مصر خلال أسبوعين قضيتهما فى زيارة علمية للولايات المتحدة. ويتمتع الموقع الإلكترونى للجريدة بجودة ومستوى مرتفع، ولم أكن أتخيل أن يقوم مجدى الجلاد بكل هذه الخبطات الصحفية المتتالية وأنا بعيد عن الوطن لا أدرى شيئاً. ولكن الإنترنت جعلنى متابعاً للأحداث، ملماً بتفاصيلها. كان حديث الأستاذ هيكل على مدى يومين بمثابة قنبلة فجرت السطح، الذى كان يبدو هادئاً ولكن كان من تحته براكين كثيرة تغلى عبر عنها عدد كبير من كتاب «المصرى اليوم»، فكان الحديث وتوابعه صدمة للنظام الحاكم بأكثر مما كان مفاجأة للمحكومين المغلوبين على أمرهم. وضع هيكل النقاط على الحروف فيما قاله وكتبه الكثيرون من قبل أن مصر تغلى ولابد من التغيير، وما قيل واضح وصريح ومنطقى من ناحية الفكرة ومستحيل من ناحية التطبيق. فخروج مصر من التاريخ وطريقة العودة إليه عبر عنها الكثيرون من كتاب «المصرى اليوم»، ولكن هيكل بثقله وبراعته فى صياغة الأفكار وترتيبها أثار زوبعة كبيرة فى المجتمع، وأثار ذعراً فى أوساط المنتفعين بالسلطة الحالية الذين أعمتهم مصالحهم الشخصية الضيقة عن رؤية المصير المظلم، الذى ينتظرهم هم وأولادهم وأحفادهم من توابع ما يحدث فى دولتهم، التى تمشى إلى الخلف بينما العالم كله بمن فيهم الأعداء يعدون بخطوات واسعة إلى الأمام. وأخذ مؤيدو النظام وحاملو المباخر فيه يكتبون ويصرحون ويتندرون على ما يكتب بكلمات تدعو إلى السخرية، ولا يستطيع أن يصدقهم طفل فى الابتدائية. إن الذين هاجموا هيكل وغيره من المفكرين والكتاب، الذين كتبوا عن أفكار مشابهة فى حقيقة الأمر ليست لهم قيمة كبيرة فى مساندة النظام ومنع انهياره، فجميعهم يمكن استبدالهم فى لحظة واحدة بطابور من المنتظرين لوظائفهم ولن يحدث شىء. والمشكلة ليست أيضاً فى المعارضة التى تبدو مشرذمة ومختلفة ولا تتفق على رأى واحد، وحتى «الإخوان» الفصيل الذى له رافد شعبى كبير لا يستطيعون، بالرغم من ثقلهم، الاتفاق مع أنفسهم أو مع أحد على شىء محدد، ولا يعرفون معنى الائتلاف، ولم يسبق لهم تاريخياً أن استطاعوا الائتلاف مع أى قوة سياسية، ولكنهم أيدوا بعض الحكام مثل الملك فاروق والضباط الأحرار ومع عبدالناصر نفسه لفترات مختلفة وبعض روافد من الجماعات الإسلامية أيدت السادات لفترة. ولكن تاريخياً لم يتآلف الإخوان ولا أظن أنهم من الممكن أن يتحالفوا مع قوى معارضة أخرى. يعنى ذلك أن المعارضة الحالية بالرغم من اتساع أنواعها وتضخم الجماعات الصغيرة فيها من جماعات شبابية وغيرها، فإنها ضعيفة الأعداد والتنظيم ومعظمها مخترق بواسطة الأمن. ومع ذلك فى ظروف معينة وتحت قيادة وطنية واعدة ومحترمة من الممكن أن تقوم لهذه المعارضة قائمة، ولكن المشكلة ليست فى المعارضة، المشكلة فى الشعب المصرى الذى هو بكل تأكيد وبجميع الإحصائيات يعانى من متاعب اقتصادية عنيفة، وفى الوقت نفسه غير راضٍ عن الفساد غير المسبوق فى تاريخ مصر، وبالتأكيد أيضاً هو غير موافق على نظام الحكم وامتداد حكم الرئيس مبارك ما يقرب من ثلاثة عقود، ومع ذلك لا يفعل شيئاً حقيقياً فى مكافحة الفساد ولا فى محاولة تغيير سلمى ولو بسيطاً. أضرب لكم مثلاً بسيطاً بجماعة 9 مارس وهى جماعة أكاديمية لا تلعب دوراً سياسياً، وكل همها هو رفع مستوى التعليم الجامعى والتأكيد على تكافؤ الفرص فى الجامعة وتشجيع البحث العلمى، وكل ذلك لا يمكن أن يتم دون توافر الحريات الأكاديمية التى ينص عليها القانون والدستور. هذه المجموعة تضم حوالى سبعمائة عضو، الناشطون منهم أقل من مائتين، وهى جماعة محبوبة ولها شعبية وتأييد من الزملاء ولكن أحداً من كل هؤلاء المحبين والمؤيدين لم ينضم للمجموعة لأسباب كثيرة منها اليأس وعدم المبالاة ومنها الخوف ومنها الرغبة فى الحصول على منصب جامعى، وهذه صورة مصغرة لما يحدث فى مصر، لا أحد يريد أن يفعل شيئاً غير بضعة آلاف من النشطاء السياسيين، لذا فإن أى مجلس أمناء محترم كالذى اقترحه هيكل لن يجد وراءه شعباً يؤيده. فالمشكلة الكبرى أن الشعب الذى يعانى ويكابد كل المشقة ويكره النظام الحالى، بل ابتكر قوانينه الخاصة التى تتعارض مع قوانين الدولة ولا تنفذها، والتى يعلم الجميع أن الأغلبية العظمى من القوانين المصرية القديمة والحديثة لا ينفذ منها شىء، وأصبح قانون البقاء للأقوى والأكثر فساداً هو السائد. هذا الشعب نفسه فى ظروفه الحالية لا يفكر أن يؤيد أو أن يناصر نظاماً محترماً برغم رفضه للنظام الحالى، وهذه أكبر قوة يعتمد عليها النظام الحالى، الذى استطاع أن يخلق هذه الحالة المذهلة من اللامبالاة فى شعبنا الجميل. هناك نقطة واحدة لا أحد يستطيع التنبؤ بها، وهى فى حالة حدوث توريث الحكم إلى جمال مبارك الذى لن أتحدث عن شعبيته أو حب الناس له، لأن الجميع يعرفها جيداً فهل سوف يستمر الموقف السلبى العامى أم سوف يحدث انفجار غير منظم ينتهى بنا إلى فوضى عارمة أو حكم دينى فاشيستى؟!