تعالوا نفترض - مثلاً.. مثلاً - أن الحكومة نجحت فى مواجهة أنفلونزا الخنازير، وأنها قضت على أى إمكانية لوجود هذا المرض فى البلد، وأنها نالت شهادة عالمية على ذلك، وأنها.. وأنها.. وأننى أردت، أو أراد غيرى أن يشير إلى نجاحها فى هذا الشىء.. هل يتقبل القارئ مثل هذا الكلام بسهولة ومرونة، وهل يمكن أن تتقبله أنت كقارئ وتبتلعه وتهضمه، أم أنك سوف ترده على الفور فى وجه الكاتب.. أى كاتب؟! التجربة من جانبى تقول إن الاحتمال الثانى هو الأقرب للحدوث فى أى مناسبة من هذا النوع، سواء كان نجاح الحكومة وقتها مع قضية مثل أنفلونزا الخنازير، أو أى قضية أخرى، فلا فرق.. ولايزال مزاج القارئ فى مصر، فى حاجة إلى دراسة، نفهم منها هذه المفارقة المثيرة للتساؤل، بل إن مزاج المتلقى، بوجه عام، سواء كان يتلقى مادة الإعلام، مسموعة أو مرئية أو مكتوبة، لايزال فى حاجة إلى تأمل عميق، من هذه الناحية! وقد حدث هذا معى أكثر من مرة، وأحسست فى المرات كلها أن المطلوب من الكاتب أن يكون متجهماً ساخطاً طول الوقت، وأن يتهم الحكومة - أى حكومة - فى كل ظرف، وأن يركز على كل ما هو سلبى، وسيئ، ومحبط، ومتشائم، ثم يبتعد طول الوقت أيضاً عن كل ما هو جيد، وحسن، وإيجابى، ومضىء، حتى ولو كانت مساحته ضئيلة للغاية، فلا حاجة للمتلقى نفسياً إلى أن يسمع أو يرى أو يقرأ شيئاً من هذا القبيل، وربما لهذا السبب تكتشف أحياناً، بل وغالباً، أن الكاتب إذا أحب أن يشير إلى شىء أعجبه فى أداء الحكومة إجمالاً، أو فى أداء أى عضو فيها، فإنه يفعل ذلك على استحياء شديد، وفى خجل أشد، ويظل يتعثر فى حياته، وكأنه يسرق، أو كأنه يرتكب شيئاً محظوراً، ويكاد يعتذر عن أنه يتكلم عن شىء غير سيئ على أرض الوطن.. ويظل المسكين يلف ويدور على طريقة طه حسين زمان، ليقول ما يريد أن يقوله عن اقتناع، دون أن يؤدى ذلك إلى اتهامه، فى نظر القراء، أو استباحة دمه، مع أنه من الجائز جداً أن تكون هناك أشياء جميلة وسط هذه السخائم التى نسمع عنها ونراها فى كل ركن. وبالتالى فالإشارة إلى مثل هذه الأشياء واجبة وضرورية ومطلوبة، حتى ولو كان هذا الشىء الجميل قد جاء من صاحبه من بين المسؤولين عن غير قصد.. فنحن فى النهاية أمام شىء موجود يجب أن يُشار إليه، بمثل ما يُشار إلى نقيضه، وإلا فإن الكاتب يفقد موضوعيته، ثم يفقد بالتالى مصداقيته! وربما نذكر هنا تلك العبارة الشهيرة التى كان مكرم عبيد باشا، سكرتير عام الوفد قبل الثورة، قد خاطب بها عدداً من المواطنين، معبراً عن شىء مما أقصده، فى هذه السطور، وراغباً فى الوقت ذاته، فى إحراج «صدقى» باشاه الذى كان رئيساً للوزراء وقتها.. قال: قلت صدقاً، فكذبتمونى، وقلت كذباً فصدقتمونى.. فليحيا كذبى، وليسقط «صدقى»!