على إحدى القنوات الفضائية قالت طالبة جامعية منتقبة: أنا مستعدة أن أخلع النقاب على باب الجامعة ليتأكدوا من شخصيتى، لكن بشرط أن يمنعوا الخليعة من دخول الجامعة. وبحكم ترددى على مكتبة الجامعة وحضور بعض المناقشات العلمية بعدد من الكليات، فلا أرى فى الجامعة خليعات، الطالبات معظمهن محجبات، وقلة غير محجبات سواء بين الطالبات أو أعضاء هيئة التدريس، وهكذا صارت غير المحجبة «خليعة».. والذين تحدثوا عن أن النقاب «حرية شخصية» لم يترددوا فى وصف غير المحجبات بالخلاعة والانحلال، وهو وصف غير محايد، بل يحمل اتهاماً واضحاً وحكماً أخلاقياً محدداً. وقبل أسبوعين قررت طالبة جامعية أن ترتدى النقاب، ولم تكن محجبة، لم تمانع أسرتها، ولكن قبلت على مضض، والدها مهندس ناجح ووالدتها طبيبة، وهما يعيشان طوال العمر «جنب الحيط».. شأن عموم المصريين الذين يطلبون الستر والابتعاد عن السلطة والحكومة قدر الإمكان، صحيح أن الوالد عضو بالحزب الوطنى، لكنها عضوية للتأمين واجتناب شبهات الاتهام، ولمزيد من التأمين طلب من ابنته أن تكشف وجهها لرجال الأمن إذا طلبوا ذلك على باب الجامعة فوعدته، ويثق بوعدها، لكنه ذهب إلى الكلية والتقى قائد الحرس ليعطيه فكرة، حتى لا تُضار ابنته، خاصة بعد الأزمة المثارة حالياً، وشرح للضابط القصة، فطمأنه الرجل تماماً، وهنأه على اختيار ابنته وأنها ستكون فى حمايته، وقال له: «يا باشمهندس أنا هنا لأحمى ولاد الناس.. مش ....» وذكر وصفاً خارجاً يعادل فى معناه وصف المنتقبة بالخليعات.. وهذا رجل أمن ومسؤول. لسنوات كانت غير المحجبة توصف أو يفهم أنها ليست مسلمة أو مسيحية.. نرى ذلك بوضوح فى النوادى الاجتماعية وأماكن العمل، ويحرص كثير من غير المحجبات أن تؤكدن لمن يتحدث إليهن أنهن مسلمات، كأن تذكرن بعض آيات قرآنية أو تكثرن من الصلاة على النبى ونطق الشهادتين وسط الحديث، وغير ذلك، لكننا الآن فى الخطاب العام الذى يشيعه أنصار النقاب بإزاء نقلة جديدة، وهى المقايضة بين النقاب والسفور، هذه بتلك، وقد سمعنا هجوماً شديداً على شيخ الأزهر، ينطلق من السؤال.. كيف له أن يهاجم المنتقبة ولا يهاجم السافرة؟ ووصل الهجوم إلى حدود المعايرة والتشفى فى بعض الحالات. والواضح أن أنصار النقاب يكسبون أرضاً، وينقلون الحوار والنقاش إلى منطقة جديدة، هى الخلاعة أو عدم الخلاعة، حتى أن كاتباً كبيراً.. كبيرا أبدى دهشته من أن شيخ الأزهر يتحمس ضد النقاب ويصمت عن «البكينى»، وأنا ممن يعشقون السير فى شوارع القاهرة والإسكندرية، فلم أجد مرة فتاة أو امرأة فى الشارع ترتدى «البكينى» لكننا نرى المنتقبات بكثرة، وفى الشواطئ والمصايف، يتم ارتداء «البكينى» فى أماكن خاصة بالسيدات ومحدودة جداً، وحتى فى المصايف هناك الآن عدم اختلاط.. لكن المقصود هو الاحتماء بالعنصر الأخلاقى العام.. فتصاغ الأسئلة على نحو استقطابى، ينطوى على ترهيب. فحين نناقش المتطرفين يكون الرد.. هل أنت مع الإسلام أو ضد الإسلام..؟ وفى النقاب يكون: هل أنت من أنصار الخلاعة والانحلال والفسق أم مع الأخلاق..؟ والأسئلة على هذا النحو تنطوى على مغالطة حقيقية، فعدم ارتداء النقاب وكذلك الحجاب لا يعنى بأى حال من الأحوال الخلاعة أو التهتك والانحلال، وقديماً نبهنا الشيخ رفاعة الطهطاوى فى تخليص الإبريز، إلى أن الفرنسيات لا ترتدين غطاء الرأس ولا غطاء الوجه ومع ذلك يتمتعن بالفضيلة وحسن الخلق، بأكثر مما نراه عندنا، باختصار الزى ليس عنواناً للفضيلة ولا دليلاً عليها، وانظر حولك لتتأكد من ذلك، الملابس عنوان للذوق العام وذوق من يرتديها وتكشف الحالة النفسية، فضلاً عن مفهوم صاحبه أو صاحبته للجمال، فحين تختار المنتقبات اللون الأسود، فهذا يكشف ذوقاً ومزاجاً خاصاً، فالنقاب يمكن أن يكون أبيض، لكنهن يفضلن السواد. والواقع أنها لحظة تاريخية مليئة بالأسى.. منذ عقود ليست بعيدة لم نكن نتوقف أمام هذه الأمور، لم نكن نحكم على المرأة أو الفتاة بمقدار ما ترتديه أو بالنظر إلى جسدها، واحتمل المجتمع كلاً من د.سهير القلماوى، وأمينة السعيد، وبنت الشاطئ، لم نسأل أنفسنا يوماً هل «جميلة بوحريد» وزميلاتها المناضلات ضد الاحتلال الفرنسى كن منتقبات أو محجبات أو «خليعات».. وهل كانت الفدائيات الفلسطينيات اللاتى قمن بعمليات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلى مثل ليلى خالد وغيرها منتقبات.. وهل كانت «سميرة موسى»، عالمة الذرة المصرية منتقبة، وهل.. وهل؟ لكن فرضت علينا تلك الحالة المزرية.. فرضها البؤس الاجتماعى والثقافى والحضارى الذى نعيشه وأدخلتنا فيها سياسات وحكومات فاشلة بل أقول متخلفة.. وسلفيون ووهابيون جاهزون للانقضاض علينا، وآخرون خلف الحدود منهم من يكره الدور المصرى، ومنهم من يكره حتى الوجود المصرى ذاته. حكومتنا عادة لا تفيق إلا متأخراً.. متأخراً جداً، بعد خراب مالطة كما يقال، وهى تفيق لثوان ثم تعاود النعاس، والحادث أن النقاب ظهر منذ أكثر من عشر سنوات، وحاول د. حسين كامل بهاء الدين، حين كان وزيراً للتعليم، التصدى له، لكن داخل الحكومة من كان يريد الإطاحة بحسين بهاء الدين، فقد كانوا يعدونه ناصرياً مندساً بينهم، وساند بعض المسؤولين أنصار النقاب ضده، وللمفاجأة فإن من حاول التصدى وقتها للنقاب كان فضيلة الشيخ الشعراوى وكذلك د. يوسف القرضاوى، وحين كبر الوحش، حاول شيخ الأزهر وحاول د.هانى هلال، لكن كل منهما يتراجع، رغم أن أيا منهما لم يدخل فى صلب القضية، وهو دخول الجامعة بالنقاب، بل وجود النقاب ذاته. أثبتت معركة النقاب أن المجتمع المصرى تقوده الفضائيات والدعاة الجدد، هم أقوى من مشيخة الأزهر ومن مؤسسة الأزهر بأكملها، كما أن بعض البرامج الفضائية أقوى من الأحزاب، وتوشك الأزمة على الانتهاء، وخرج أنصار النقاب كاسبين أرضاً جديدة، أثبتوا أنه لا يجوز الاقتراب من المنتقبات إلا بحدود ضئيلة، وهو أمر محفوف بالمخاطر لمن يقوم به، حتى لو كان فى قامة الإمام الأكبر، أو وزير التعليم العالى.. ومن قبل جرى ذلك لوزير الصحة د.حاتم الجبلى، رغم أن وزير الصحة حاول التصدى للنقاب من منطلق طبى وليس من أساس أيديولوجى ولا عن موقف راديكالى. المكسب الآخر الذى حققوه، هو إعلان أن غير المحجبة خليعة ومنحلة، وأتصور أن يقال عن سافرة أنها ليست مسلمة أهون كثيراً من أن تتهم بالخلاعة والانحلال، ويعلن ذلك فى إحدى الفضائيات وفى عدد من المقالات دون أن يرد أحد على ذلك القول الذى لا يخلو من بذاءة، فضلاً عن قصور الفهم والرؤية، وما كان يمكن أن يقال سراً صار يعلن.. وأتصور أن الرحلة القادمة سوف تشهد تراجعاً وانحصاراً أكثر لغير المحجبات وأن النقاب سوف يزداد.. والبنطلونات القصيرة وضفائر الشعر وذيل الحصان سوف تنتشر أكثر بين الشباب، والقادم أسوأ بكثير.