بعد ثلاثة أعوام فى منفى اختيارى، وقع المدرب الأرجنتينى مارسيلو بييلسا عقد عودته إلى صفوة كرة القدم بعد قيادته المنتخب الشيلى نحو التأهل إلى بطولة كأس العالم 2010 فى جنوب أفريقيا، حيث بات جمهور الكرة فى الدولة المجاورة يتعامل معه على أنه معشوق وزعيم قيادى بل قديس. واستطاع بييلسا تغيير أسلوب لعب دولة لا تتمتع بإنجازات كروية كبيرة، حققت على يده أول فوز لها على الأرجنتين، وتغلبت على منتخبات أوروبية خارج ملعبها وقدمت كرة جميلة بفريق يبلغ متوسط أعمار أفراده 23 عاما، أثبت بعضهم مكانة كبيرة مثل أليكسيس سانشيز وماتياس فرنانديز وأومبرتو سوازو. بيد أن بييلسا اليوم ليس هو بييلسا الأمس الذى قاد نيويلز أولد بويز والأرجنتين، وأثبت نفسه عامى 2001 و2004 كأفضل وثانى أفضل مدير فنى لأحد المنتخبات فى العالم على الترتيب. فإحباطات كأس العالم مع المنتخب الأرجنتينى تركت أثرها بنوبات صمت وعدم ثقة أجبرته بالفعل على الابتعاد عن الملاعب لمدة ثلاثة أعوام يشاهد أشرطة الفيديو ويسجل الأخطاء فى مزرعته بمدينة روساريو مسقط رأسه، كما اعترف بنفسه للصحفيين الشيليين. وطالب المدرب بالحذر إزاء المديح الذى انهال عليه من كل جانب فى شيلى، حيث وصل الأمر إلى حد زيارته والإشادة به من جانب رئيسة البلاد ميشيل باشليه وهو لم يحاول بدوره إخفاء إعجابه بها. ويقول «دائما ما قلت للاعبين إننى أريد أن أمثل لهم ما تمثله باشليه لشيلى». وبييلسا اليوم، 54 عاما، يتحاشى الجنون ويفضل الاعتدال. ولا يحتفل تقريبا بأى هدف لفريقه، حتى فرحته بتأهل الفريق إلى كأس العالم بفوزه 4/2 على كولومبيا فى ملعبها الأحد الماضى كانت معقولة. إنه الآن أكثر رزانة، استفاد من سنوات طويلة لم يتمكن خلالها وهو ابن طبقة راقية ومثقفة، من التفاهم مع العالم المحيط به. ففى البداية كانت ضحكات الاستغراب، وليس سوء الظن، من الأطفال الفقراء بفرق الناشئين فى نيويلز الذين كانوا يذهبون للبحث عنه فى منزله فيجدون حمام السباحة والخدم والأعمال الفنية. والآن هناك من لا يستوعبون أسلوب حياته الرهبانى، وهو يغلق على نفسه جانبا من مركز التدريب فى شيلى وسط حى من الطبقة المتوسطة يجوب شوارعه فى بعض الأحيان من أجل شراء الفاكهة من الأسواق القريبة. لكن هناك أشياء لا تتغير مثل خوفه من الفشل: «القيادة تظهر عند الهزيمة والسائق يكون جيدا فقط إذا اجتاز الموانع»، كما قال فى شيلى أمام نحو ألف من رجال الأعمال دفعوا 550 دولارا من أجل الاستماع إليه، وهو يتحدث عن القيادة. ويضيف «ما لا يمكننا السماح به هو أن يتوقفوا (اللاعبون) عن الكفاح، مع الإفراط والفوضى، لابد من تقبل ما سيحدث». لكن ولعه بعمله هو ما راق للشيليين، حتى قبل التعاقد معه، عندما دخلوا صراعا ضاريا مع كولومبيا على الفوز بخدماته. وبالفعل فى أول اجتماع له مع مسؤولى الكرة فى شيلى بدا بييلسا كما لو كان يؤكد رأيهم فيه بإخراج ملفات وأوراق تتضمن ملاحظاته عن كل لاعب، كان قد أعد تقريرا وراجع عشرات الشرائط فقط كى يبدأ فى المفاوضات. وحمله حبه للتفاصيل على قياس مساحة ملاعب الكرة فى شيلى ووضع كاميرات من أجل تصوير التدريبات ودراسة تاريخ البلاد وكذلك تطور مؤشراتها الاجتماعية، مثل متوسط معامل الثقافة لدى الشعب كما اعترف فيما بعد. وبضربة واحدة قضى على عدم الانضباط، وحوّل المنتخب إلى مشروع لا مثيل له، حقق لاعبوه صفقات انتقال بقيمة 35 مليون يورو فى رقم لم تشهده شيلى فى تاريخها. وعرضوا عليه فى شيلى البقاء بالفعل، لكنه يأمل فى الرد بعد تجربة جنوب أفريقيا 2010، حيث يخشى أن تعقد الضغوط من الأمور كما سبق أن حدث مع الأرجنتين. لكن أيا ما كان قراره، أكد الصحفى الأرجنتينى أرييل سينوسياين، كاتب سيرته الذاتية ،يوم السبت الماضى للتليفزيون الشيلى، أن بييلسا «وجد مكانه فى العالم داخل شيلى». وبالفعل سبق أن أكد شقيقه رافاييل بييلسا، وزير خارجية الأرجنتين السابق، منذ وقت طويل أن المدرب يخطط من أجل البقاء فى شيلى بضعة أعوام أخرى. وكشف المدير الفنى عن ذلك الأمر بقوله إنه اندهش من المستوى الذى وجده فى شيلى: «اعتقدت أن كرة القدم الشيلية أقل مما وجدتها عليه». وعلق بعد ذلك بأن هذا التحسن «يأتى من تطور جميع المؤسسات، حيث تملك مشروعات تنمية جادة وقابلة للتحقيق». أى بالضبط ما يريده بييلسا.