لابد لمن رأى القمة السورية السعودية فى دمشق مؤخراً أن يتبادر إلى ذهنه مصير العلاقات المصرية السورية، وهى تاريخياً أقدم وأعمق، ووصلت إلى حد الوحدة، على الرغم من الانفصال المؤلم بعد ذلك، وعلى الرغم مما يبدو من اختلاف فى المصالح بين الدولتين حالياً، وهو اختلاف تكتيكى، ينبع من طبيعة ارتباطات كل منهما الآن والطريقة التى تراها أكثر ربحاً فى إدارة علاقاتها من العالم، لكن هذا الاختلاف لا وجود له عند الحديث فى جوهر الاستراتيجية، حيث تتطابق مصالح الدولتين، ليس اليوم، أو فى العصر الحديث فقط، ولكن من قديم الزمان، عندما كانت القيادة السياسية فى مصر تحرص على لقاء الغزو الآسيوى فى الشمال السورى. لم أبدأ هذا المقال بنية الحديث عن العلاقات المصرية السورية، بل عن التكلس المخيف الذى يطبع علاقات مصر الخارجية فى العقدين الأخيرين، وجاءت المصالحة السعودية السورية مناسبة للحديث عنه. علاقاتنا الخارجية تنام فى مكانها أوقاتاً لا تناسب دولة حية فاعلة فى محيطها الإقليمى، وكأن حبل الوداد وحبل الجفاء مع الدول الأخرى قد أصابهما الترهل وفقدا القدرة على التمدد والانكماش، فصرنا نجد أنفسنا فى حجر من يجب أن نتخذ منه مسافة، من دون أن نقدر على مفارقته، أو بعيداً جداً عمن تستدعى الظروف الاقتراب منه دون قدرة على اتخاذ خطوة باتجاهه. ننخرط فى الحب والعداء باندفاع ساذج، مصدره الصدق أحياناً، والضعف المبنى على عدم إدراك قدرات البلد وحجمه أحياناً أخرى. الصدق وبياض القلب قد يكونان فضيلتين فى العلاقات الشخصية، والتواضع قد يكون ضاراً أو مفيداً بهذا القدر أو ذاك. لكن الصدق والتواضع والاندفاع فيهما إلى نهاية الطريق فى علاقات الدول، تبديد للقدرات الوطنية وانعدام كفاءة مروع. وإذا عدنا مرة أخرى إلى المثلث المصرى السورى السعودى، والموقف من الصراع العربى الإسرائيلى سنجد أن السعى إلى السلام على أسس واقعية استراتيجية يوحد الدول الثلاث. وهذه الاستراتيجية هى التى أشهرت المثلث ككتلة واحدة على مدى سنوات أثمرت المبادرة السعودية التى تبنتها قمة بيروت، وبعد الرد الإسرائيلى المتعنت بدأ المثلث يفقد تماسكه ويفتح من عند نقطة الارتكاز السورية، ليس على أساس الاستراتيجية، بل على مستوى التكتيك. مصر والسعودية، لا تعانيان احتلال أجزاء من أراضيهما مثل سوريا، ولديهما من الصبر ما يكفى لانتظار الكرم الإسرائيلى، أو الكرم الأمريكى الضاغط على إسرائيل، لكن سوريا التى تعانى من احتلال الجولان لا يمكن أن تنتظر هذا، وليس أمامها إلا التنسيق مع القوى الراديكالية فى المنطقة، سواء إيران أو حزب الله أو المنظمات الراديكالية الفلسطينية، لتحريك الموقف. وهى فى هذا التحالف تذهب باتجاه المواجهة إلى الحد الممكن، كما أن ما يصدر عن السعودية يحاول أن يوحى لأمريكا والغرب بأن انتظار السلام ليس بلا نهاية. وأن القرار لن يبقى بيد قوى (الاعتدال) إلى الأبد. وحدها مصر، لا تستعجل ولا تناور، وتراهن على سلام ليس معروضاً علينا، ويضيق صدرها بالتنسيق السورى مع الراديكالية الفلسطينية واللبنانية، إلى حد اعتباره عملاً ضدها، بينما بوسعنا أن نتفق على تحييد ضرره مصرياً، والاستفادة منه فى ملف القضية ككل، وإن لم يكن هذا ولا ذاك، كان علينا أن نخفى الألم، لأن التألم يفقدنا أوراقاً أخرى، ويسعد الأعداء الاستراتيجيين أن يبدو علينا الألم والخصام التام مع سوريا. هذا الخطأ لم ترتكبه الرياض، التى ذهبت وحدها إلى مصالحة منفردة مع دمشق، بلا انتظار للشريكة فى الخصام: مصر. ومن دون التوقف مطولاً أمام هذه القمة، أو البحث عن الاتصالات التى سبقتها، سواء بين الرياضودمشق أو بين الرياض والقاهرة، فإن هذه المرونة تصنعها السعودية، بكفاءة، حتى مع إيران، وقد استقبلت الرياض أحمدى نجاد مرتين بفاصل شهور، عندما استدعت الضرورة ذلك فى أثناء ولايته الأولى. أمريكا نفسها، استخدمت هذه المرونة مع إيران، ليس بعد وصول أوباما فقط، بل على أيام بوش، وكانت الدولتان تعزفان معاً كونشرتو للبيانو والكمان، هو الأكثر إتقاناً فى تاريخ العزف! سنوات من الحوار اللدود استمرت، بصرف النظر عن عدالة قضية هذا الطرف أو ذاك، لكننا نرى المرونة اللامتناهية لدى الطرفين اللذين يصلان إلى حافة الحرب ويعودان منها فى كل مرة، بينما مصر الفاقدة للمرونة تؤمن بالعداء لإيران إيمان العوام، وتذهب دائماً إلى آخر الطريق، حيث لا عودة. خطورة المشروع الإيرانى مؤكدة، حيث يستريح الطموح الإمبراطورى تحت العمامة، وهو أخطر من حرب المذاهب التى تغذيها أمريكا، بعد انفجارها بفعل هزيمة المشروع القمعى العراقى. ولكننا مع ذلك يجب أن نخفى تألمنا، وأن نبقى على شعرة معاوية مع إيران، لأن وزننا الإقليمى يزداد بزيادة الطرق التى تؤدى إلينا، حتى لدى الحلفاء الأمريكيين، إذا افترضنا أن التحالف مع أمريكا وحدة ما يغلبها غلاب! بالتأكيد يريد الأمريكيون حليفاً مطلق اليدين يستطيع أن ينقل رسالة وقت الحاجة، أكثر من حليف مخلص مقيد اليدين. والقيد الذى نضعه باختيارنا بالعداء المطلق للأعداء أو من فى منزلتهم، لا يشبه إلا قيد الحب المطلق للأصدقاء ومن فى منزلتهم. وكما نخسر من السير فى طريق العداء بلا عودة، نخسر من المحبة المفرطة. وأقرب مناسبة للمحبة المفرطة، الجريمة التى ارتكبتها السلطة الفلسطينية بحق شعبها وبحق العرب جميعاً بتأجيلها مناقشة تقرير جولدستون، الذى كان من شأنه أن يلصق تهمة مجرمى الحرب بكبار قادة إسرائيل. اكتفت مصر بنفى علمها المسبق، وكان ينبغى أن توبخ السلطة، مرة على تجاهلها التنسيق معها ومرة على التفريط الشنيع، ليعرف الجميع أننا لا نمنح موافقتنا للحلفاء على بياض مهما قصروا أو خانوا.