فى مدينة الصف، وحولها، تحتضن الأراضى الزراعية والصحراوية أكبر تجمع لمصانع الطوب الطفلى التى تنتج الحصة الكبرى من احتياجات الجمهورية من هذه الصناعة المهمة، هذا هو الجانب المضىء فى الصورة، لكنها لا تكتمل إلا بالحديث عن المازوت أو «العدو الأسود» كما يسميه أهالى الصف، ويتم استخدامه فى تشغيل أكثر من 300 مصنع للطوب فى الصف وعرب أبوساعد، وينفث آلاف الأطنان من الكربون والانبعاثات الكيماوية القاتلة سنويا فى سماء القاهرة، ليزيد من حجم السحابة السوداء الجاثمة على صدر العاصمة. هنا فى عرب أبوساعد، تنعدم الرؤية بنسبة تصل إلى 50% بفعل الدخان المتصاعد من المداخن الشاهقة، والمنطقة التى يعانى أهلها من بؤس وفقر مدقع، وبيئة تغذيها عوادم المحروقات، كانت ولاتزال تشكل مسرحا جديدا لصراع تجارى من نوع خاص، بين شركة كندية تستثمر فى مشاريع تحسين البيئة، والشركة التى فازت بعقد امتياز توصيل الغاز إلى الصف. بدأت القصة بعد نجاح مبادرة من هيئة المعونة الكندية ووزارة البيئة ووزارة البترول وأصحاب المصانع، لتحويل العمل فى 50 مصنعا للطوب من المازوت إلى استخدام الغاز فى أفران الطوب، وتقليل انبعاث أكثر من 45 مادة كيميائية خطيرة مثل الزرنيخ والكادميوم وثانى أكسيد الكبريت والدايوكسين، تسبب سرطانات الجهاز التنفسى والجلد والكبد والكلى والمثانة، إلى جانب خفض نسبة انبعاث الكربون بنسبة تصل إلى 99%، وهو العنصر المسؤول عن ظاهرة الاحتباس الحرارى للغلاف الجوى. أثار نجاح تجربة تحويل المصانع للعمل بالغاز فى مايو 2006 رغبة باقى أصحاب المصانع فى تحويل نظام التشغيل من المازوت، الذى يستخدم فى صناعة الطوب الطفلى منذ الثمانينيات، إلى الغاز الطبيعى الذى يحترق بكفاءة وانتظام، وتكاليف تشغيله أقل، والأهم أنه يحقق ربحاً أكبر لهم بسبب أسعار الغاز الرخيصة. وقام عدد من مستشارى المعونة الكندية بعد انتهاء مشروعها بتأسيس شركة خاصة باسم «أيديا مصر» فى شهر يوليو 2007، يقول أصحابها إنها تساعد باقى المصانع وعددها 311 مصنعا فى العمل بالغاز الطبيعى وتحويلها إلى مصانع صديقة للبيئة، والاستفادة من التزام الدول الصناعية الكبرى بتشجيع مشاريع آلية التنمية النظيفة، عن طريق شراء شهادات تقليل انبعاث الكربون التى تصدرها الأممالمتحدة وتوزيع الجزء الأكبر من أرباح هذه الشهادات على أصحاب المصانع. يقول ريتشارد شودى، رئيس شركة أيديا: «أردنا أن نوفر خبرتنا فى تسجيل المشاريع البيئية ضمن آلية التنمية النظيفة CDM التابعة لاتفاقية كيوتو الدولية لخفض انبعاثات الكربون، وتحقيق الاستفادة لنا ولأصحاب المصانع من عائد أرصدة خفض الكربون فى الهواء، والتى تعتمدها الأممالمتحدة، وفى الوقت ذاته، الإسهام فى تقليل التلوث الصناعى الذى يعانى منه هواء القاهرة». ويوضح شودى أنه «بمقتضى هذه الاتفاقية، تشترى الدول المتقدمة، كاليابان وأستراليا والدول الأوروبية وكندا، شهادات خفض الكربون من المشاريع المسجلة فى الأممالمتحدة، مقابل عائد مادى مجز». وللفوائد السابقة، وافقت وزارة البيئة بتاريخ 25 يناير 2007، وقامت شركة أيديا بالحصول على جميع الموافقات المحلية والعالمية لتسجيل المشروع بصفة نهائية فى المجلس التنفيذى لآلية التنمية النظيفة فى الأممالمتحدة، وتم التقدم للأمم المتحدة للحصول على التسجيل النهائى فى مايو 2007، وكان العائد المباشر المتوقع 350 مليون جنيه مصرى من بيع شهادات الكربون، توزع على أصحاب مصانع الطوب والشركة المنفذة وجهاز شؤون البيئة، وتلتزم الشركة بتخصيص 5% من عائد شهادات خفض الكربون لتوجيهها إلى جهود التنمية الاجتماعية والصحية لمنطقة الصف وعرب أبوساعد، مثل تحسين مياه الشرب والخدمات التعليمية والصحية. «خير قادم من الهواء، ويقلل حوالى 315 ألف طن من الملوثات سنويا، تحتوى على 45 نوعاً من الكيماويات المنبعثة السامة»، هكذا يصف ولاء رشدى المدير التنفيذى فى شركة أيديا مصر المشروع، مستطردا: «لكن كل هذه الفوائد الاقتصادية والصحية والبيئية توقفت تماما، عندما أرسل جهاز شؤون البيئة خطابا للأمم المتحدة لتعليق تسجيل المشروع بصفة مؤقتة، قبل 5 ساعات من الوقت المحدد لتسجيله فى الأممالمتحدة، بتاريخ 17 مايو 2007»، بحجة عدم استكمال الاتفاقيات مع أصحاب المصانع وشركة تاون جاز «المقاول المنفذ لعملية توصيل الغاز الطبيعى للمصانع». ريتشارد شودى، رئيس شركة أيديا نفى «مزاعم» جهاز شؤون البيئة، وأكد أن هذه الاتفاقيات تم إنجازها بالفعل، وقال إن المشكلة الحقيقية أن تاون جاز أرادت الانسحاب من المشروع للاستئثار بعائد بيع شهادات الكربون. ويشبه شودى ذلك بمن حصل على براءة اختراع وأرادت جهة أخرى سرقة مجهوده وطمعت فى مشاركته هذا الاختراع. يدلل «شرودى» على ما يصفه بمطامع تاون جاز، بالضغوط التى مارستها على أصحاب المصانع لإجبارهم على عدم التعاون مع أيديا مصر، ويقول: «بالفعل قامت الشركة بصياغة عقود (إذعان) تخنق أصحاب المصانع ببند فى التعاقد ينص على (عدم التصرف) فى خفض غازات الاحتباس الحرارى بصورة مباشرة أو غير مباشرة من عملية تحويل المصانع من العمل بالمازوت إلى الغاز الطبيعى إلا بموافقة تاون جاز». يشبه المهندس ولاء رشدى، المدير التنفيذى للمشروع، هذه العملية بمن يبنى لك بيتا ثم يطلب إشراكه فى السكن، ولمدة ستة شهور حاولت شركة أيديا تعديل الاتفاقية ومط الوقت لإجبار أيديا على الانسحاب، أو توقيع اتفاقية جديدة تلزم أيديا فيها بتحمل قيمة الشبكة الخارجية مقدما ودون تحديد أى قيمة لتكلفتها أو وجود مراجع مالى محايد يراجع قيمة هذه الشبكة، وظلت هذه المماطلة مستمرة حتى تاريخ كتابة هذه السطور. وزارة البيئة من جهتها - وإنهاء للمشاكل- كما تقول الدكتورة مواهب أبوالعزم، رئيس جهاز شؤون البيئة، قررت تقسيم المشروع إلى جزءين، الأول فنى، وهو الخاص بعملية التحويل إلى الغاز من خلال مشروع مكافحة التلوث الصناعى «EPAP»، بغض النظر عن تسجيل المشروع فى الأممالمتحدة من عدمه. وتم الحصول من خلال هذا المشروع على قرض فى فبراير 2007، ممول من منحة للبنك الدولى، قدرها 140 مليون جنيه، تقدم لأصحاب المصانع، بحيث يتحمل صاحب المصنع تكلفة إدخال الغاز بالكامل، ويسددها على أقساط، ويعفى من 20% من قيمة القرض عند بدء التشغيل. الجزء الثانى بيئى، وخاص بشهادات بيع الكربون، وطالبت وزارة البيئة شركتى أيديا وتاون جاز بحل مشكلاتهما والوصول إلى اتفاق. شركة تاون جاز، من جهتها، وعلى لسان حاتم بسيونى، مدير الشؤون البيئية والصحية فى الشركة، فسّرت الخلاف مع أيديا، بأنه إخلال بالعقود معها، وقال ل «المصرى اليوم» إن أيديا تعهدت بتحمل تكلفة الشبكات الداخلية فى المصانع، وبناء عليه، قررت تاون جاز فسخ التعاقد والبحث عن عروض جديدة. ورأى بسيونى أن من حق الشركة التى توصل الغاز المشاركة فى أى أرباح يدرها بيع شهادات الكربون، وبالتالى بدأت البحث عن عروض جديدة من شركات بيئية لإعادة تسجيل المشروع فى الأممالمتحدة. من جانبها، نفت شركة أيديا، وعلى لسان رئيسها ريتشارد شودى، ما وصفه «بمزاعم تاون جاز» بتعهد أيديا بتحمل قيمة الشبكات الداخلية، وقال إن آلية التنمية النظيفة تلزم أصحاب المصانع بتحمل هذه التكلفة، وإعادة تحصيلها بعد بيع شهادات الكربون. وجدد شودى رفض أيديا مشاركة «تاون جاز» لها فى شهادات الكربون، ويقول: «شركة تاون جاز تحصل على 100% من تكلفة توصيلها للغاز»، ويتساءل: «هل يعقل أن يشترطوا عليك إذا أدخلوا الغاز إلى شقتك أن يحصلوا على طبق من كل طعام تستخدم الغاز فى طهيه». ويعتقد ريتشارد، رئيس أيديا، أن تاون جاز أرادت تعظيم أرباحها بابتزاز الشركة الوحيدة الحاصلة على حق بيع شهادات الكربون من مشروع تحويل مصانع الطوب للعمل بالغاز الطبيعى فى الصف، والنتيجة تعطل المشروع بكل الفوائد الاقتصادية والبيئية التى كان من المرجو تحقيقها لمدة ثلاث سنوات، وحتى هذه اللحظة. أصحاب المصانع من جانبهم، وعلى لسان عبدالعزيز محمد عزوز، رئيس الجمعية التعاونية لأصحاب مصانع الطوب فى الصف، قال إن مصلحتهم تكمن فى سرعة تسجيل المشروع، واتهم تاون جاز بتعمد تعطيل دخول الغاز، وابتزاز أصحاب المصانع لإقحام نفسها فى أرباح بيع شهادات الكربون دون حق على الرغم من أنها ستحصل على كامل تكلفة عملية إدخال الغاز. وقال ل «المصرى اليوم»: «التعاقد على بيع الكربون كان بين المصانع وشركة أيديا التى تحملت تكاليف تسجيله فى الأممالمتحدة، ونتيجة لتعنت تاون جاز، سيتحمل كل مصنع كامل تكلفة توصيل الغاز بما فيها الشبكة الخارجية، فى حين كان أصحاب المصانع سيحصلون على 65% من أرباح الكربون يغطون بها تكلفة دخول الغاز». آخر ما تم فى الموضوع أن وزارة البيئة مارست ضغوطًا لخفض نصيب شركة أيديا من عائد بيع الكربون، واستجابت أيديا بتقليص حصتها من 70% إلى 25% من صافى ربح عائد بيع شهادات الكربون، وقامت بتوقيع ملحقات لعقودها مع أصحاب المصانع على أن يستفيدوا ب65% من أرباح بيع شهادات خفض الكربون، وبالرغم من ذلك - كما يقول ريتشارد- لم تستجب وزارة البيئة لنداءات أصحاب مصانع الطوب وشركة أيديا بسرعة تسجيل المشروع فى الأممالمتحدة. باختصار، لا الجزء الفنى تم، ولا الجانب البيئى تقدم خطوة، واستمر سكان القاهرة فى تحمل أعباء ملوثات كان يمكن خفضها منذ ثلاث سنوات بانتظار خلاف لا يبدو فى الأفق أنه فى طريقه للحل.