أود فى ختام هذه السلسلة من المقالات، استخلاص أهم القضايا التى أظن أنها تستحق أن تحظى بنقاش جاد وموسع من جانب مختلف فصائل النخبة الوطنية فى مصر، لمعرفة ما إذا كان حجم الإجماع المتحقق حولها يكفى لبلورة رؤية مشتركة يمكن البناء عليها لإعادة إحياء الحركة الوطنية بطريقة تسمح لها بتغيير الواقع التعيس الذى تعيشه مصر فى هذه المرحلة المفصلية من تاريخها: القضية الأولى: تتعلق بالموقف من مشروع التوريث، وما إذا كان السعى لإجهاضه يمكن أن يشكل مهمة تستحق أن تتصدر منذ الآن جدول أولويات العمل الوطنى. القضية الثانية: تتعلق بالموقف من التكتيكات المحتملة التى يتوقع أن يلجأ إليها الحزب الوطنى لتمرير مشروع التوريث والقدرة على بلورة تكتيكات مضادة. القضية الثالثة: تتعلق بشكل وطبيعة النظام السياسى البديل فى حال نجاح الحركة الوطنية فى إجهاض مشروع التوريث وفتح الطريق أمام التغيير. ولفتح باب النقاش العام حول هذه القضايا الثلاث ربما يكون من المفيد فى مقالنا الختامى هذا إعادة تحديد وصياغة رؤيتى الشخصية بقدر أكبر من الوضوح والتكثيف، وذلك على النحو التالى. فيما يتعلق بالموقف من مشروع التوريث، لا يخامرنى شك فى أن الغالبية الساحقة من شعب مصر ترفضه، وهو ما يؤكده استطلاع حديث أجراه الحزب الوطنى نفسه، لأن خلافة جمال لوالده بالطريقة الجارية تنطوى على معانٍ أهمها: 1- إحساس عميق بالمهانة: فقد أصبحت الأغلبية الساحقة على قناعة تامة بأن الخلافة، إن تمت، ستكون نتاج عملية مخططة لاغتصاب السلطة، وليست تعبيرا عن إرادة شعبية تعكسها انتخابات حرة ونزيهة. ولأنها تبدو عملية مسرحية تنطوى على نوع من الاستغفال والاستهانة بالشعب المصرى فمن الطبيعى أن يتولد لديه شعور بالمهانة إلى حد يستحق الغضب. 2- تأبيد الاستبداد: فالرئيس القادم يأتى فى أعقاب تعديلات دستورية تطلق فترات الولاية، وتحول دون تمكين القضاء من الإشراف علىسير الانتخابات. ولأن جمال مبارك - وهو المسؤول الأول عن هذه التعديلا - شاب فى منتصف الأربعينيات فمن المتوقع أن يظل رئيسا مفروضا لمدة قد تطول إلى أربعين عاما مقبلة! 3- رضوخ للقهر الاجتماعى: فلأن الوريث ينتمى إلى مجموعة من «رجال الأعمال الجدد» تؤمن بالحرية الاقتصادية وتعادى الليبرالية السياسية فى الوقت نفسه، يخشى كثيرون أن تزداد سطوة رأس المال فى عهده، وأن تتسع الهوة القائمة حاليا بين الأغنياء والفقراء على نحو قد يشكل تهديدا خطيرا للسلم والأمن الاجتماعيين. 4- استسلام للهيمنة الأمريكية - الإسرائيلية: فلأنه يصعب وصول الوريث إلى مقعد الرئاسة دون ضوء أخضر من الولاياتالمتحدة وإسرائيل، يخشى كثيرون أن يظل قرار مصر رهينة وعرضة للابتزاز من جانب قوى خارجية ولفترة طويلة مقبلة.وإذا صح هذا التحليل، فمعناه أن الرفض الشعبى لمشروع التوريث يمكن أن يتسع ليشمل جميع القوى الإنسانية الرافضة أسلوب الخديعة، والقوى السياسية المعارضة للاستبداد، والقوى الاجتماعية الباحثة عن عدالة التوزيع، والقوى الوطنية المناوئة للهيمنة الخارجية والابتزاز الإسرائيلى. وفيما يتعلق بالتكتيكات المتوقعة لا يخامرنى شك فى أن الحزب الحاكم سيسعى جاهدا لاستخدام كل ما لديه من وسائل الترهيب والترغيب لتمرير مشروع التوريث. ولأن أمامه تحديين كبيرين هما: انتخابات مجلسى الشعب والشورى، والتى يتعين أن يحصل فيها على ثلثى المقاعد على الأقل لضمان إحكام سيطرته على العملية التشريعية والحيلولة فى الوقت نفسه دون سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على الثلث الباقى، فمن المتوقع أن يحاول الحزب الحاكم إبرام صفقات مع القوى السياسية الأخرى سعيا لتحقيق هدفين أساسيين، الأول: تقليص تمثيل جماعة الإخوان المسلمين فى كل المجالس المنتخبة إلى أدنى حد ممكن وتوسيع تمثيل القوى الأخرى، كل حسب درجة استعداده للتعاون، إلى أقصى حد ممكن. الثانى: ضمان عدم حصول القوى الأخرى مجتمعة على ما يكفى من المقاعد لتمكين شخصية مستقلة من الترشح لانتخابات الرئاسة. فى تقديرى أن النظام الحاكم لن يجد صعوبة كبيرة فى تحقيق أهدافه على هذا الصعيد لسببين رئيسيين، الأول: ضعف القوى السياسية المصرح لها رسميا بالعمل، مما يضاعف من ميلها لعقد صفقات تسمح لها بتحقيق مكاسب تتجاوز وزنها الحقيقى فى الشارع، والثانى: استخدام جماعة الإخوان المسلمين كفزّاعة لتخويف قوى سياسية واجتماعية بعينها. ولأن هذه القضية تشكل تحديا كبيرا جدا، ليس فقط لقوى المعارضة السياسية ولكن أيضا لمجمل القوى الوطنية، فيتعين على هذه الأخيرة أن تبدأ منذ الآن ببحث الآليات التى يمكن أن تحول دون عقد صفقات تسمح للنظام بتمرير مشروع التوريث بأقل الخسائر السياسية الممكنة، وهو أمر ليس بالمستحيل. وأخيرا، ففيما يتعلق بمرحلة ما بعد سقوط مشروع التوريث، يتعين على كل القوى الوطنية أن تدرك أن التحدى الحقيقى الذى تواجهه لا يكمن فى إسقاط مشروع التوريث وإنما فى بناء نظام سياسى بديل للنظام الذى أفرز التوريث بكل أشكاله، سواء أكان توريثا بالاختيار أو توريثا بالدم. وبصرف النظر عما قد يولده مشروع التوريث بالدم من إحساس بالمهانة، إلا أننا نعتقد أنه مشروع لا مستقبل له وأن مصيره إلى الزوال، إن عاجلا أو آجلا، حتى لو نجح فى تحقيق إنجاز مرحلى أو مؤقت، غير أنه يتعين ألا يغيب عن نظر القوى الوطنية أن خلافها ليس مع أشخاص بأعينهم وإنما مع نظام يكرس الفساد ويزين للاستبداد. ولن يشكل إسقاط نظام بهذه المواصفات خطوة إلى الأمام، إلا إذا تبعتها بالضرورة خطوة أخرى تستهدف تأسيس نظام بديل أرقى يقوم على أنقاضه، وهى مهمة ليست بالمستحيلة رغم كل ما قد يكتنفها من صعوبات ليست بالهينة. ولأنه يستحيل، فى تقديرى، العثور على وصفة سحرية قادرة على أن تنقلنا من حالة الاستبداد المطلق التى تعيشها مصر فى المرحلة الراهنة إلى حالة من الديمقراطية الكاملة، التى نأمل فى الوصول إليها يوما ما.. فتبدو الحاجة ماسة إلى مرحلة انتقالية، يتعين على كل فصائل النخبة أن تسعى إلى تهيئة الظروف الملائمة لإنجازها. ويتطلب ذلك من كل فصائل النخبة المؤمنة بضرورة التغيير، بشقيها الفكرى والسياسى، أن تبدأ منذ الآن فى بلورة رؤية مشتركة تقوم، فى تقديرى، على الاقتناع: 1- بأن أى صفقات مع الحزب الوطنى قد تحقق مكاسب آنية لمن يقبل بإبرامها، لكنها ستضر بالقضية الوطنية ككل، وستؤدى إلى إضعاف كل من يقبل بها، وستساعد فى عزلته وفقدانه قواعده الشعبية، خصوصا على المدى الطويل. 2- وبأنه ليس بوسع أحد أن يملك الحقيقة أو يحتكرها لنفسه، وبالتالى فليس من مصلحة الحركة الوطنية المصرية عزل أى قوى سياسية مهما بلغت درجة الاختلاف الأيديولوجى معها، ودفعها بالتالى للعمل تحت الأرض، لأن ذلك سيشكل عبئا على أى نظام سياسى فى المستقبل. من هنا تأتى ضرورة السعى لبلورة قواسم مشتركة والبناء عليها لتشكيل أوسع تحالف ممكن وتنحية كل الخلافات الأيديولوجية جانبا فى هذه المرحلة الحساسة الراهنة من مراحل تطور الحركة الوطنية. 3- وبأن من مصلحة جميع القوى الوطنية أن تنسق فيما بينها لخوض معركة الانتخابات التشريعية المقبلة بمرشحين يتم الاتفاق على تسميتهم. وأظن أن لدى الجميع وقتا كافيا لبلورة قواعد وآليات واضحة ومحددة لاختيار مرشحين فى معظم الدوائر - إن لم يكن فيها جميعا - يصلحون لإدارة المرحلة الانتقالية. وفى حالة الاختلاف على مرشحين من بين كوادر الفصائل السياسية المختلفة يتعين السعى للاتفاق على ترشيح عناصر مستقلة تتمتع بحسن السمعة والسلوك. 4- وبأن الاتفاق على مرشح مستقل لرئاسة الجمهورية بات ضرورة حتمية، فالظروف مهيئة تماما لالتفاف الشعب حول مرشح قوى يحظى بإجماع النخبة، خصوصا إذا تم تقديمه باعتباره المرشح المكلف بإدارة التغيير فى مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات يتعين خلالها صياغة دستور جديد وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب السياسية بما يسمح ببناء نظام تعددى حقيقى. وفى تقديرى، إن تأييد رموز مصر الفكرية لبرنامج من هذا النوع كفيل، ليس فقط بإسقاط مشروع التوريث، وإنما بإحياء الأمل فى إمكانية قيام نظام ديمقراطى حقيقى فى المستقبل المنظور.