حتماً سيأتى يوم تتمتع فيه معركة اليونسكو بنعمة النسيان، فلا هى خسارتنا الأولى ولا الأخيرة، ولا هى أكبر أخطاء فاروق حسنى، بل هى ليست خطأه بالمرة. وإن كان فى اختيار هذا المرشح بالذات ما يثير الألم، فإن تسويق الخسارة وتسويغها يثير الحسرة والشفقة. الحسرة على وطن هان، حتى تحول على أقلام بعض مستشارى الوزير إلى خرقة أو حتى إلى منشفة فاخرة لتجفيفه، وإزالة آثار المعركة عنه، إذ اعتبروا مناقشة القضية بموضوعية عملاً ينحط إلى درك الخيانة الوطنية! أما الشفقة، فعلى المستشارين أنفسهم الذين اصطفوا فى اليمين الجديد بأدوات اليسار القديمة جداً، هل حقاً لا يزال بيننا من يتكلم لغة التخوين؟! كتبة يمينه، الذين اعتادوا تحويل سيئاته إلى حسنات، عرفناهم فى أزمة محرقة بنى سويف، عندما لم تنجح رائحة لحم خيرة مسرحيينا المشوى فى تجفيف أقلامهم، أو ردعهم عن مدح وزير، يتساقط المقربون منه فى أيدى العدالة كالذباب واحداً بعد الآخر. هم أحرار مع ضمائرهم، لكن من غير المقبول عقلياً أن يتحول فاروق حسنى إلى رمز وطنى. على الرغم من أن معركة اليونسكو جمعت كلمة المثقفين، حيث أمل الجميع فى فوزه، حباً فيه، أو حباً فى الثقافة المصرية، التى كان الفوز باليونسكو الطريقة الوحيدة التى ستجعله يرحل عنها. لكن الأمنيات شىء والواقع شىء آخر، فى عصر يوصف بالشفافية، حيث نعيش فى عالم بلا أسرار، حتى إن أحد الاعتراضات الدولية على ترشيحه كان بسبب قصر المدة التى يقضيها فى مكتبه بالوزارة! أما الاعتراضات الأخرى، فكلها تتعلق باعتباره رمزاً للجمود السياسى ببقائه وزيراً على مدى 22 عاماً، وبأدائه فى قضايا الرأى. وأمام هذه الاعتراضات فإن إخفاقه فى الحصول على المنصب ليس مفاجأة، بل المدهش هو الأرقام العالية من الجولة الأولى وحتى الجولة الأخيرة التى انتزعت فيها المرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا فوزها الصعب عليه بفارق أربعة أصوات فقط. هذا الصمود حتى النهاية يرجع إلى وقوف الدولة المصرية وراء المرشح بكل ما تبقى لها من ثقل، سواء فى التسويات التى سبقت الترشيح لإقناع دول عربية بسحب مرشحيها الأكفأ منه أو أثناء الحملة الانتخابية وحتى لحظة النهاية. وضعت مصر قضية حسنى على جدول الاجتماعات والمقايضات السياسية، وهو ما لم تفعله لمرشح مصرى سابق للمنصب نفسه، هو إسماعيل سراج الدين، بل كانت أقرب لتأييد المرشح السعودى غازى القصيبى فى دورة 1999 التى فاز بها اليابانى كويشيرو ماتسورا، المدير الذى أنهى دورتين هذا العام. هذا التجنيد الاستثنائى لإمكانيات الدولة لصالح معركة فاروق حسنى ليس له سوى تفسير واحد، فقد صار بأخطائه عبئاً ثقيلاً على النظام، ولكنه عبء عزيز. ومن هنا كان الأمل المصرى فى تحويل اليونسكو إلى مخبأ آمن للوزير. بذلت الدبلوماسية المصرية أقصى جهدها، لكن وراء المرشح الخطأ، انطلاقاً من تصور خاطئ يتعامل مع اليونسكو بوصفها إحدى مؤسسات التكريم المصرية، مثلها مثل "المجالس القومية المتخصصة"، التى يقضى فيها رجال الحكومة سنوات ما بعد الأضواء انتظاراً لقرار الرحمة الإلهية. وما يمكن أن نستشفه من الصمود المدهش لفاروق حسنى، هو أن اقتناص المنصب الدولى لم يكن صعباً لو قدمت مصر المرشح المناسب. وبدلاً من الاعتراف بخطأ الاختيار تم تجنيد الطاقات الإعلامية لتحويل فاروق حسنى رمزاً وطنياً وإعطاء خسارته أبعاداً وطنية مصرية وقومية عربية، وأممية إسلامية! ومن الطبيعى أن ينهمك فى الخدمة أفراد الحراسة الإعلامية، الذين لا تهمهم أى قضية سوى إثبات الإيمان الصافى، كإيمان العوام بكل ما يفعله أو يريده النظام. ومن الطبيعى أن يشارك فى حفل الزار الوطنى المستفيدون شخصياً من فاروق حسنى، الخبير فى إدخال المثقفين الحظيرة. لكن المدهش أن يتسع طيف مستنكرى السقوط، ليشمل جماعة الإخوان، التى اعتادت استدراجه إلى درب الأخطاء، حيث استنكر النائب البرلمانى، الذى جره إلى تصريح المحرقة خسارة المنصب، معتبراً أن خسارة حسنى جاءت نتيجة مؤامرة "إسرائيلية- أمريكية"، حشدت الغرب ضده، طالباً إعادة النظر فى تعاملاتنا مع أمريكا، التى أسفرت عن وجهها القبيح. هذه الجماعة بالذات، هى التى جرت فاروق حسنى إلى كل الأخطاء التى لا يمحوها اعتذار، وكانت فى مقدمة الاعتراضات الدولية عليه. وهى اعتباره ممثلاً لنظام الحجر على حرية التعبير، وقد كانت مناسبات مصادرة الكتب تأتى دائماً بطلبات إحاطة وأسئلة للوزير من الإخوان تحت قبة مجلس الشعب. وكان تعهده الشهير بإحراق أى كتاب إسرائيلى يوجد على أرض مصر آخر هذه السلسلة، عندما استجوبوه حول وجود كتب إسرائيلية فى مكتبة الإسكندرية. ودخل الوزير بسرعته المعهودة فخ "المحرقة" بكل رمزيتها فى الذهنين الغربى واليهودى، ثم كانت اعتذاراته المتعددة عن هذا التصريح سقوطاً على الجانب الآخر، بل إن بعض التصرفات العملية كانت مسيئة للوطنية المصرية "حتى لا نتحدث عن خيانة مثل مشايعيه" ومنها ترميم المعبد اليهودى، وتسويقه باعتباره ترضية لإسرائيل، بينما هو أثر مصرى مثل غيره من الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية، ولا يجب أن نطلب من وراء ترميمه رضا أى دولة أو أى كيان آخر. وبعد كل الاسترضاء الذى أثمر سكوتاً إسرائيلياً وصهيونياً، عاد بعد الهزيمة ليتهم المنظمات اليهودية بالوقوف ضده، ويتوعد إسرائيل بالقصاص. وهذه مبالغة فى قوة هذه المنظمات لصالح تحويله بطلاً، بينما الحقيقة فى مكان آخر. وبدلاً من تصوير الأمر بوصفه صراعاً بين الشمال والجنوب، أو مؤامرة ضد مصر والعرب والمسلمين، عليه أن يهنأ بالخسارة المشرفة، ويشكر الظروف وألعاب الحظ الجيدة التى جعلته يصمد خلال خمس جولات تصويت، لأن من تكتلوا ضده لم ينتبهوا إلى إضافة ملحوظة أخرى لقائمة السلبيات الطويلة، وهى العدد الكبير من الآثار المصرية، الذى خرج من لائحة اليونسكو فى عهده بسبب الترميم المعيب الذى يغير من طبيعة الأثر، وبينها الجامع الأزهر، بينما تنتظر القلعة المصير ذاته بسبب الأبراج التى تبنى أمامها، وإن لم تكن كارثة القلعة من صنعه، فقد كان عليه أن يرفضها، ويتمسك برفضها، حتى لو أدى الأمر لاستقالته.