لابد وأن يثير فشل فاروق حسنى فى الوصول إلى رئاسة اليونسكو كثيراً من الأسى، ليس فقط لدى الدولة ولدى مناصريه، ولكن ربما لدى بعض معارضيه من المثقفين المصريين أيضاً، ويزداد الأسى لأنه من وجهة نظر الكثيرين يعتبر واحداً من أنسب الوجوه التى يمكن أن تمثل مصر فى المحافل الدولية، ولأنه «والدولة من ورائه» بذلا جهوداً مضنية فى الحملة الانتخابية، ثم لأن هذه الحملة فائقة التميز «خصوصاً بالمقارنة بحملة مونديال 2010 مثلاً»، كادت تصل إلى هدفها لولا ما بدا وكأنه مفاجآت اللحظة الأخيرة. على أنه ليس فى الأمر مفاجأة حقاً، ذلك أن خسارة المنصب المرموق كانت محتملة منذ وقت مضى بسبب الحملة الصهيونية التى اقتنصت كل ما يمكنها اقتناصه من تصريحات فاروق حسنى المرتبكة، خاصة ما يتعلق منها بحرق الكتب اليهودية، وللأسف فقد تورط فاروق حسنى، رغم حنكته الفائقة، فى تراجعات كادت تريق ماء وجهه، ومع ذلك فهى لم تنقذه فى النهاية، ورغم أن الضغوط الصهيونية كانت واسعة النطاق، إن كان سراً فى كواليس الدبلوماسية أو علناً فى وسائل الإعلام، فإن الموقف الأمريكى كان الأكثر فاعلية، ليس فقط لكون الولاياتالمتحدة القوة الأكبر فى العالم، والمسيطرة على الأممالمتحدة منذ إنشائها، ولكن لأن لها فى اليونسكو نفوذاً خاصاً ينبع من كونها تسهم بربع ميزانية المنظمة، وقد أشهرت هذا السلاح بوقاحة ضد المفكر السنغالى البارز أحمد مختار إمبو، بسبب نضاله المستميت من أجل قضايا العالم الثالث، فانسحبت من اليونسكو فى ثمانينيات القرن الماضى «ومعها بريطانيا وسنغافورة»، وأسقطته فى انتخابات 1987 لصالح المرشح الأوروبى، ومنذ ذلك الحين وبسبب التطورات على الساحة الدولية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، انصاع الكل رغم تأففهم للنفوذ الأمريكى فى اليونسكو. لكن أمريكا أوباما كانت تبدو هذه المرة كما لو كانت أكثر ذكاء من أمريكا المفضوحة فى الماضى، أمريكا اليوم هى أمريكا الأمس بالطبع، عقيدة الهيمنة ذاتها والتحالف مع إسرائيل نفسه، لكنها اليوم لا تصل إلى هدفها بقفاز الحديد وإنما بخيوط الحرير، وهكذا فهى تتحرك من وراء الأستار، تضمر دون أن تعلن، تذبح دون أن تريق الدم، تحشد المجتمع الدولى من ورائها دون أن ينبس واحد من مسؤوليها فى واشنطن بكلمة، هذه حقيقة لم تكن خافية على أحد، خاصة وقد تداولتها الصحف، وهى حقيقة لابد أن الدولة تعلمها، وإن كانت تعلم فى قرارة نفسها أيضاً أن الأوزان معروفة وأنها لا تستطيع من أمرها شيئاً مع حليفها الذى سئمنا من لقبه المهذب «الحليف الاستراتيجى». تلك هى الضربة الموجعة لنظام الحكم فى فشل فاروق حسنى فى الوصول إلى سدة اليونسكو، لكن الضربة الأخرى التى لا تقل إيلاماً هى أن شريكه فيما يسمى «مسيرة السلام»، إسرائيل، لم تقابل بالتوقير المرجو أيا من مبادرات مصر المخجلة الأخيرة لمسالمتها، خاصة منذ عدوان غزة، ولا احترم رئيس وزرائها العيش والملح فى إفطار شرم الشيخ الرئاسى، فعلت إسرائيل ما فعلته أمريكا تماماً.. سكت مسؤولوها عن الكلام المباح، فى حين واصل أتباعها الضرب على رأس المرشح المصرى، حتى أجهزت عليه أمريكا فى الشوط الأخير من الانتخابات. يضاف إلى هذا، الموقف الأوروبى المراوغ المعهود من العرب وقضاياهم، والذى أحسب أنه انكشف للعامة قبل الخاصة، وبالذات فى مراحل الصراع العربى - الإسرائيلى الأخيرة، وها نحن قد رأينا فى معركة اليونسكو كيف تكتلت أوروبا وراء مرشحة بلغاريا «بعد أن انسحبت المرشحة النمساوية»، حتى فازت برئاسة المنظمة، ولا يعفى أوروبا من المسؤولية أن أربعاً من دولها أعلنت أنها تساند المرشح المصرى، «وإن كنا لا نعلم لمن أعطت أصواتها فى التصويت الذى يجرى سراً بحكم دستور اليونسكو»، على رأس هذه الدول فرنسا، التى بدت فى الأسابيع الأخيرة كما لو كانت أكثر إخلاصاً لمصر من غيرها، وإن كانت العلاقات الدولية لا تعرف ما يسمى الإخلاص.. فهناك المصالح أولاً، ولقد كان من المتوقع أن تتوافق مصالح فرنسا مع مصالح مصر، التى زار رئيسها فرنسا نحو 50 مرة، تعاقب عليها خلالها عدد من الرؤساء الفرنسيين أظهروا له كثيراً من الود، آخرهم ساركوزى، إلا أن ساركوزى هو ألعنهم، فقد وضع مصلحة إسرائيل قبل مصلحة مصر والعرب، خاصة عندما استدرج مصر وعدداً من الدول العربية إلى الانضمام مع إسرائيل إلى اتحاد دول البحر المتوسط، الذى يترأسه مبارك وساركوزى سوياً «وكان أولمرت قد وصف العلاقة بين إسرائيل وفرنسا بأنها تعيش قصة حب منذ وصول ساركوزى إلى الحكم». وقد تحدثت الصحف مؤخراً عن صفقة بين مصر وفرنسا تتعهد فيها فرنسا بمساندة فاروق حسنى مقابل دعم مصرى أكبر وأنشط للاتحاد من أجل المتوسط، ورغم ذلك فلا يمكن أن يتأكد أحد من أن فرنسا طابقت وعدها بالفعل أثناء التصويت. ويعزز من هذه الشكوك أن وزير الخارجية الفرنسى أعلن صراحة أنه معترض على ترشيح فاروق حسنى، وأن الحملة ضده كانت مستعرة فى الإعلام الفرنسى بالذات، وأن المرشحة البلغارية الفائزة فى الانتخابات معروفة بعلاقاتها المتشعبة فى الأوساط الفرنسية منذ عينت سفيرة لبلادها بمقر اليونسكو فى باريس. سواء كان الأمر على هذا النحو أو غيره، فقد حصل ما حصل، هى صدمة ولا شك لمصر، يزيد من إيلام الصدمة أن صفوف الدول الأفريقية الداعمة رسمياً لمصر قد تهاوت منذ بدء الانتخابات، ليس فقط لأن مكانة مصر فى أفريقيا قد امتهنت «وآخر الدلائل على ذلك مشكلة مياه النيل»، ولكن أيضاً لأن مندوبى بعض الدول الأفريقية الفقيرة بالذات سال لعابهم للأسف أمام الرشاوى الأمريكية - الإسرائيلية المغرية، وهو أمر ليس بجديد، إذ إن أروقة اليونسكو تروى منذ زمن حكايات عن الخمسين ألف دولار أو ما يزيد التى منحت لهذا المندوب أو ذاك حتى يتنصل من تعليمات حكومته ويضع ورقة مخالفة لها فى صندوق التصويت السرى. ويضاعف من صدمة مصر أيضاً، أنها كانت تستحق وضعاً فى اليونسكو أفضل مما نراه بكثير «كنت أتولى بين 1977 و1987 منصب مدير إدارة التداول الحر للمعلومات وسياسات الاتصال، ثم مدير مكتب الاتصال الجماهيرى، وهما أرقى منصبين وصل إليهما مصرى فى مقر المنظمة منذ ذلك الحين»، وربما كانت الصدمة أيضاً للعرب «الذين تولى بعضهم منصب مدير عام مساعد». لكن الصدمة ليست فى المناصب وحدها، بل إن الصدمة الأهم، ولا شك، هى أنه قد انكشفت مرة أخرى أكذوبة الحوار بين الثقافات الذى يمثل الركن الأساسى فى مبررات قيام المنظمة. فها هى أوروبا توحد صفوفها تحت زعامة أمريكا - أوباما الذى أبهر عموم المسلمين بخطابه البراق فى جامعة القاهرة، وما إن جد الجد حتى تنصل من دعوته إلى التصالح مع الإسلام بعد شهور معدودة فقط من إطلاقها، وتلك طعنة فى الصميم، ليست فقط للعرب والمسلمين وإنما لليونسكو ذاتها، تؤكد قصة معادة إلى حد القرف، هى سقوط المبادئ أمام المطامع. ربما يخفف كل هذا من فاجعة فاروق حسنى الشخصية، ولو كان قد درس جيداً تجربة الدكتور بطرس غالى عندما كان سكرتيراً للأمم المتحدة لدورة وحيدة «لم تستطع فيها مصر مؤازرته أمام الإهانات الأمريكية المتبجحة والضغوط الإسرائيلية السافرة»، ولو كان قد تعمق بعض الشىء فى سنوات إدارة الدكتور محمد البرادعى لوكالة الطاقة الذرية «الذى استطاع الصمود لفترة أطول لأنه يحمل جواز سفر نمساوياً إلى جانب جوازه المصرى» لما كان قد تقدم للترشيح لليونسكو أبداً. على أنه مهما كان الأمر فلا فائدة الآن من وراء البكاء على اللبن المسكوب، لقد خرج فاروق حسنى من هذه التجربة بهزيمة مشرفة حقاً، جعلته أكثر تألقاً فى العالم كله وليس فى مصر وحدها، وذلك رغم تناثر الأقاويل حول شقه للجماعة الثقافية المصرية، أو انتقائه لبطانة فاسدة، أو تمثيله لنظام مستبد، ولابد أن أبواباً واسعة ستفتح الآن أمام الفنان التشكيلى المبدع المعروف بطموحه الجامح، والذى أظن أنه سيغادر وزارة الثقافة التى أخلص بعمله الرائع فيها، ولم يعد له بعد 22 عاماً على قمتها أن يقدم جديداً يذكر، يكفى ذلك وزيادة. أما إذا كانت الدولة فوق هذا وذاك تريد أن تكرمه بأكثر مما فعلت، فلا غضاضة فى ذلك، فلتعطوه أرفع وسام أو تولّوه أرقى منصب إذا شئتم.. لكن بالله ليس فى شركات البترول.. تكفينا مرة!!