رؤية الأمور من الولاياتالمتحدةالأمريكية تختلف كثيراً عن رؤيتها من بلادنا، سواء بالنسبة لنا عندما نزورها، مثلما أفعل الآن، أو بالنسبة للمهتمين بنا من أهلها عندما يعودون إليها، مثلما يفعل الآن مارتن إنديك، الذى كان أول سفير يهودى لبلاده فى إسرائيل عام 1995 ثم مرة أخرى عام 2000 فى عهد بيل كلينتون، وهى فترة شهدت كثيراً من المناورات والمفاوضات المعلنة وغير المعلنة على المسارين الفلسطينى والسورى. الآن، بعد حقبة من الكمون السياسى فى عهد جورج بوش الصغير، يلتقط إنديك (الذى تشعر بأنه ربما يشعر بأنه يمثل للديمقراطيين ما كان يمثله هنرى كيسنجر للجمهوريين) أنفاسه مهيئاً نفسه مرةً أخرى على خط البداية. وخط البداية دائماً، بالنسبة له ولكثير من الفاعلين من يهود أمريكا، هو مركز البحث والدراسة والتوصية التى تتحول فى النهاية إلى سياسة تلتقى بأرض الواقع. وعلى هذا الخط ارتفع حديثاً إلى موقع نائب رئيس مؤسسة بروكينجز ومديرها للسياسات الخارجية بعدما كان قد أسس بنفسه عام 1985 معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى خارجاً من عباءة كبرى منظمات اللوبى اليهودى فى واشنطن، التى يطلق عليها اختصاراً اسم «إيباك». يلاحظ انحدار تدريجي للشعبية الجارفة التى أتت بباراك أوباما إلى البيت الأبيض، ونلاحظ نحن أن أحد أحدث استطلاعات الرأى العام يشير إلى أن 55% من الشعب الأمريكى لا يزالون يعتقدون أن إدارة بوش كان معها حق فى تطبيق ما يسمى «أساليب التحقيق الفائقة»، أى تلك الأساليب القذرة التى استخدمت لتعذيب المعتقلين فى جوانتانامو وأبو غريب. وهى نسبة مرعبة من الشعب الأمريكى بالنظر إلى روح البطاقة الأساسية التى مكنت أول رجل أسود من حكم أقوى دولة فى العالم. يأتى ذلك بينما يتعرض أوباما لهجوم شرس على هامش حملتين: حملة داخلية تخص إعادة هيكلة نظام التأمين الصحى، وحملة خارجية تحاول التعامل مع المسألة الفلسطينية من منظور أوسع لا يروق لكثير من أصدقاء إسرائيل. فى أثناء ذلك يتهم بأنه «نازى» وبأنه «كاذب» ويضطر، رغم حرصه منذ أتى على أن ينأى بنفسه عنها، إلى الإعلان عن عدم قبول هدية الرئيس الأمريكى الأسبق، جيمى كارتر، الذى قال فى معرض الدفاع عن أوباما إنه يتعرض لهجوم «عنصرى» لأنه «أسود». ورغم هبوط شعبية أوباما إلى الحضيض فى إسرائيل، بما ينفخ الروح ظاهرياً فى موقف نتنياهو، فإن ثعلب سياسات الشرق الأدنى، مارتن إنديك، يعتدل فى جلسته أثناء لقائنا به، ويكشر عن ابتسامة ناعسة، ويضع سمعته على المحك، ويقول إن الضغوط على نتنياهو ستزيد بصورة لن يجد معها سبيلاً إلى تقديم الحد الأدنى من التنازلات والاحتفاظ بائتلافه متماسكاً فى الوقت نفسه. ومن ثم سيعمد، فى رأى إنديك، إلى نقل قضبان القطار إلى اتجاه آخر سيقود فى الغالب نحو دمشق من خلال مفاوضات سرية غير مباشرة مع الرئيس بشار الأسد تلتقط الخيط من تلك التى كان لجأ هو نفسه إليها أثناء ولايته الأولى مع الرئيس الراحل حافظ الأسد. يطلق إنديك على الرئيس السورى الراحل وصف «فرانك سيناترا عملية السلام» لأنه كان يصر دائماً على أن يفعل كل شىء على طريقته هو الخاصة (من قبيل أغنية سيناترا الشهيرة I Did It My Way). وبذلك استطاع، وفقاً للسفير الأمريكى فى النمسا سابقاً، رونالد لودر، أن يحصل من نتنياهو على التزام لدى نهاية المفاوضات السرية بانسحاب شامل من هضبة الجولان إلى حدود 4 يونيو 1967. اليوم، إذا افترضنا صدق نبوءة إنديك واستعداد دمشق لإعادة فتح قناة سرية على هذا المستوى، من أين سيبدأ نتنياهو مع الرئيس السورى بشار الأسد؟ يكشر مارتن إنديك مرةً أخرى عن ابتسامة ناعسة: «بالطبع سيقول إن السفير الأمريكى لم يفهم».