يبدأ فيلم «إبراهيم الأبيض» بمشهد قتل الأب أمام عينى الطفل، إثر صفعة من الأم لجارتها زوجة الجزار، بعد مشادة معتادة حول لعب الأطفال. وهو حادث تمتلئ به صفحات الحوادث يومياً، ولم يطلب أحد تبريراً له، ومع ذلك فإن بعض من كتبوا عن الفيلم سألوا عن المبرر الفنى لهذا القتل الذى يفتقر إلى الإقناع! والخميس الماضى فُجعنا فى الروائى توفيق عبدالرحمن، الذى اهتمت صفحات الحوادث بصفته الوظيفية (وكيل سابق لوزارة الإعلام) وقد راح ضحية جريمة قتل، تنتمى لأجواء فرانز كافكا العبثية، لا إلى أجواء روايات توفيق نفسه، الواقعية الأقرب إلى السيرة الذاتية. سيارة ميكروباص بلا أرقام، تسير بحرية فى العجوزة مثل آلاف غيرها تجوب شوارع القاهرة بأرقام ومن دون، ويُسيّرها مجرمون أو مجرمون محتملون، صدمت سيارة توفيق عبدالرحمن. فى حالة كهذه ليس أمام شيخ سبعينى، يعانى من آثار حادث مرور سابق إلا أن ينزل يعاين سيارته ويطلب من السائق الآخر انتظار معاينة البوليس. ويبدو أن ذكر البوليس هذه الأيام هو كلمة السر التى يعرف منها المجرمون والمجرمون المحتملون أن من يقف أمامهم قادم من كوكب آخر، ويتحدث عن مصر أخرى، وفى أحسن الأحوال فهو مستيقظ من نومة أربعين سنة على الأقل، لكى يتحدث عن هذا الشىء! وهكذا اكتشف السائق زيف العملة التى يحملها خصمه، ولم يكلف نفسه عناء دهسه، فطلب من التباع تأدية هذه الخدمة، وقد أداها التباع من دون أن يطرف له جفن، ركب السيارة وسار فوقه! مات توفيق عبدالرحمن على الأسفلت. ولا نعرف إن كان ابن حكمدار قد وجد الفرصة للتفكير فى شناعة ما حدث، فهو ليس إبراهيم الأبيض لكى يستسيغ حالة الهياج التى أصابت السائق من ذكر كلمة البوليس، فقد عاش ابن رجل الأمن معتزاً بفكرة القانون والحدود والحقوق والعقوبات بين البشر. وما تعرض له ليس القتل عقاباً على صفعة، يراها نقاد الفن أقل من أن تقود إبراهيم الأبيض إلى الإجرام، بل مات بلا سبب سوى أنه يتكلم لغة قديمة أمام واحد من سكان الغابة، الذين يمر أحدنا بجوارهم كل يوم ويعود إلى بيته بصدفة. وبصدفة مختلفة يمكن لأى منا أن يكون توفيق عبدالرحمن ولا يعود إلى بيته، بسبب خلاف مع سائق الميكروباص يسد الطريق أو نقاش على مسار الرحلة أو صوت المسجل أو زيادة التسعيرة، أو بدون سبب على الإطلاق سوى الحر والذباب. ويمكننا أن نقول الكثير عن غياب أمن المواطن، وهو صحيح وأسبابه كثيرة ومعروفة، وفى القلب منها هذا العدد الكبير من المسؤولين والشخصيات العامة المطلوب من الشرطة تأمين كل منهم مرتين فى اليوم الواحد، فى حال قرر الخروج لمرة واحدة، وبعضهم يقطع المدينة «رِجْل غراب» من أقصى الغرب أو الشرق فى الضواحى الجديدة إلى مقار الحكومة والحزب وحزن الشعب والشورى فى وسط القاهرة. لكن ظاهرة انعدام الأمن لا تقتصر على العاصمة وحدها، بل تشمل كل أقاليم مصر، وتتخطى بالتالى السبب الكلاسيكى الذى تعانى منه العاصمة (تغليب الأمن السياسى على الأمن الاجتماعى) كما أنها تتخطى الأسباب الأخرى وإن كانت موجودة مثل النقص فى التمويل والاستعداد، كما تتخطى مشكلة رضا رجل الأمن عن دخله، وهى مشكلة تؤرق الشباب فى كل المهن، لكنها باتت ظاهرة تخص فلسفة الحكم. وقد تكون كلمة الفلسفة كبيرة على نظام البزرميط الذى يحاول بكل السبل التشبث بظهر الأسد، أى البقاء متوازناً فى قمة السلطة، بأى ثمن، وأينما ذهب به الأسد؛ دخل غابة أو قفز فى «رشاح مجارى»، أكل من يقابله أم أكل بعضه وأشباله. ولن نفترض أن التباع أو السائق يقرآن الصحف ويعرفان أن هناك أخباراً عن وجود وزير أجنبى لا يحمل الجنسية المصرية، من دون أن يكذبها أو يثبتها أحد، وسنفترض أنهما لا يعرفان أن لصاً كوفئ بمنصب رفيع بدلاً من إلقائه فى السجن عقب عزله من منصبه الوزارى، لكنهما بالتأكيد يعرفان أن الحكومة لم تعد تعنى لهما إلا مخالفة المرور وضريبة التجديد وإتاوة الكارتة، ولا شىء أكثر من هذا. لم يعد نظام البزرميط يسعى إلى ترسيخ شرعية من خلال العطاء، بحيث يصبح وجوده مقبولاً، ويصبح وجود الدولة طبيعياً عند لحظة العقاب، طالما هى موجودة لحظة الثواب. هذا هو قانون الإدارة، ينطبق على الحكومة كما ينطبق على النظام العرفى فى الريف والبادية، حيث لا يمكن أن يعد من الأعيان أو يصبح مسموع الكلمة أى فقير، حتى لو كان عقله يزن عشرات من عقول الأعيان الذين يمتثل الناس لهم وينزلون على كلمتهم لمجرد أنهم أصحاب أملاك ولهم أياد على الآخرين. وغياب الدولة هو الذى جعل السائق يستشيط غضباً لمجرد أن يطلب الراحل توفيق عبدالرحمن تحكيم البوليس. ولو كان توفيق عبدالرحمن يعرف أننا نعيش فى ظل البزرميط وطلب تحكيم صاحب مائدة الرحمن التى سيتناول السائق والتباع إفطارهما عليها أو طلب تحكيم إمام المسجد الذى سيعطيهما كسوة وعيدية أولادهما، فربما كانا قد قبلا بالحكم وما غضبا إلى حد القتل. وليس فى هذا أدنى تبرير للجريمة، بل على العكس أتمنى أن تثبت فيها تهمة القتل العمد، لكن هذا لا يقدم ضمانة على أن مواطنين آخرين لن يلقوا المصير العبثى الذى لقيه الروائى توفيق عبدالرحمن، طالما استمر النظام فى تأخير نفسه وتقديم رجال الأعمال ولجان الحزن الوطنى كآباء بدلاء لمجتمع يتعرض لأسوأ عملية الإذلال، عبر اقتصاديات الإحسان التى تجبره على تقبيل أيدٍ يتمنى قطعها.