أثار مقال الأسبوع الماضى حول «فن الدين» ردود أفعال غاضبة بين الكثير من القراء، وتحفظ بعضهم، ورفض البعض الآخر رفضاً قاطعاً الرأى الذى ذهبت فيه إلى أن دعاة الفضائيات يعتمدون على «التمثيل» فى تقديم المضمون الدينى، بصورة تفقده الكثير من جلاله وقدسيته، وتجنح به إلى الاستغراق فى الجوانب الشكلية والمظهرية فى الإسلام، وتفقده القدرة على التعامل مع الكثير من القضايا الحقيقية التى تتصل بالواقع المتردى الذى يعيش فى ظله المسلمون فى مصر، وفى شتى بقاع العالم. وكان أكثر ما أثار حفيظة بعض القراء الحديث بالاسم عن بعض الدعاة التليفزيونيين الذين يمارسون الدعوة بمنطق «التمثيل» من نموذج عمرو خالد، وخالد الجندى، ومبروك عطية وغيرهم. وهو الأمر الذى يعكس حالة التقديس التى أصبحت تسيطر على تفكير الكثيرين عند النظر إلى هذه الشخصيات، من منطلق أنهم دعاة دينيون، وبالتالى فإن أى مساس بهم يعد تهجماً على الإسلام!!، ويدفع إلى تصنيف من يحلل أسلوبهم أو طريقتهم فى فئة من يغرد خارج سرب الجماعة!. والناس معذورون فى ذلك لأنهم- فى النهاية- ضحايا لهذه الأسماء التى استطاعت أن تسكن فى عقولهم ووجدانهم فى خانة الشخصيات المقدسة والذوات المصونة التى تتصدرها يافطة «ممنوع الاقتراب». و يكفى هؤلاء «الدعاة الفنانون» عبثاً أن بلغوا بالناس هذا المبلغ ووصلوا بهم إلى حد تقديسهم ورفض أى انتقادات توجه إلى أسلوبهم الدعوى. والسبب فى ذلك الأفكار التى تتردد فى كلامهم، فأحدهم يقدم نفسه على أنه صاحب رسالة، وأنه يريد فقط أن يمتد به العمر حتى يكمل رسالته!، وغيره يقول إنه يدعو إلى تصحيح مسيرة الغرب الذى غرق فى المادية، ويحتاج إلى صوت إسلامى عاقل ليصلح ما فسد من أمره!، والثالث يردد أنه جاء من أجل إصلاح «المعوج» فى حياتنا وإعادته إلى «الطريق الصح»، وهذا جاءه النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام وقال له «اذهب وافعل كذا»، وذلك جاء النبى لصديقه فى المنام أيضاً وقال له قل لفلان يذهب ويبلغ عنى. ماذا ننتظر من الناس وهم يسمعون هذا الكلام سوى أن يقدسوا قائليه ويرفعوهم إلى مرتبة فوق البشر، ويرفضوا أى مساس بهم أو نقد لأسلوبهم؟!. والعجيب فى الأمر أن هذا يحدث باسم الإسلام الذى لم يجعل الدعوة إلى الله وظيفة يتخصص فها عدد من المسلمين، بل جعلها مهمة ينبغى أن يقوم بها كل مسلم، إن لم يكن كل إنسان خلقه الله «والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». فالتواصى بالحق مهمة كل إنسان آمن بالله. أضف إلى ذلك أن الدعوة إلى الله ليست مجرد كلام يردده البعض باللسان، وإنما هى- قبل أى شىء- سلوك. والداعية الأول والأعظم فى تاريخ الإسلام، وهو النبى، صلى الله عليه وسلم، لم يكن مجرد محدث بالقرآن بالكريم الذى يحمل رسالة السماء، بل كان- عليه الصلاة والسلام- قرآناً يمشى على الأرض. وكتاب الله نزل على المسلمين من أجل أن يُقرأ، وليس من أجل أن نسمع قصصه الشريف فى وقائع تمثيلية ترتبط بكفاءة الحكى عند هذا الشخص أو ذاك، ولهذا سماه الله تعالى القرآن. هذا القرآن الذى تأدب النبى، صلى الله عليه وسلم، بأدبه رفض فكرة تقديس الشخص، وربط عصمة شخص النبى بالوحى، ولم ينف عنه بشريته «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ». وبعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، كانت صيحة أبى بكر رضى الله عنه مدوية وهو يقول «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت»، وذلك حين بدأت بوادر الفتنة والاختلال فى صفوف المسلمين أمام هذا الحادث الجلل. وقد ارتبطت الردة فى تاريخ الإسلام بفكرة تقديس الأشخاص، فالذين امتنعوا عن دفع الزكاة قالوا إننا كنا ندفعها للنبى، أما وأنه قد مات فلا زكاة علينا، وقد أطاع هؤلاء سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل حتى أعادهم أبوبكر إلى حظيرة الطاعة. لقد حارب الإسلام فكرة تقديس الفرد، أيا كان هذا الفرد، حتى ولو كان أبوبكر الذى كان يقول للناس «إنى وليت عليكم ولست بخيركم»، أو عمر الذى قال «أخطأ عمر وأصابت المرأة»، أو عثمان الذى قال عندما لامه بعض المسلمين فى أسلوب خلافته «والله ما عاب من عاب شيئاً أجهله وما جئت شيئاً إلا وأنا أعرفه ولكن ضل رشدى»، أو على بن أبى طالب الذى نزل على حكم أصحابه الذين قبلوا بتحكيم كتاب الله فى قتاله لمعاوية، وقبل برأيهم رغم أن نفسه لم تكن راضية بذلك. فإذا كان هؤلاء الأفاضل لا قداسة لهم فكيف نفهم تلك الهالة من القداسة التى يضفيها الكثيرون على دعاة الفضائيات التليفزيونية. إن تحرير العقل المسلم يبدأ من فك رباط تبعيته لأى شخص من هؤلاء الكبار المشاهير الذين تملأ صورهم إعلانات الطرق والشوارع أكثر مما تملأها صور الرئيس ونجله!. ولو أن غريباً زار البلد هذه الأيام فسوف يسأل عن موقع أصحاب هذه الصور فى مؤسسة الرئاسة، ومن المؤكد أنه لن يصدق بحال أن هؤلاء هم نجوم الدعوة الدينية الذين صنعتهم الشركات الراعية التى تبث إعلاناتها وسط برامجهم التى يشاهدها الناس أكثر مما يشاهدون الأفلام والمسلسلات. وقد يظن من يشاهد نجوم البرامج الدينية الذين تزدحم بهم القنوات الفضائية المصرية أن حياة المصريين هى دين خالص حتى ينزل إلى الشارع، ليفهم أن هناك فارقاً كبيراً بين دين التليفزيون ودين الواقع. إننا ما زلنا نذكر أفكار علمائنا الأفاضل من أمثال الشيخ محمد الغزالى والشيخ حسنين مخلوف والشيخ أحمد حسن الباقورى والشيخ عبدالحليم محمود وغيرهم كثيرون، رغم رحيلهم عن دنيانا، فقد ذهب الشخص وبقيت الفكرة. وأتحدى أن يلخص لى أى شخص فى مجموعة من العبارات أفكار أو مواقف أحد هؤلاء الدعاة التليفزيونيين «على حياة عينه» أو يشير إلى كتاب قام بتأليفه، إنه فقط يستطيع أن يصف لك صورته، أو يقلد لك صوته!، تماماً مثلما يفعل «البهلوان» أو «البغبغان». فأغلب هؤلاء الدعاة لا يقدمون أى أفكار متماسكة، بل لديهم «سيولة فى الفكر» تؤدى إلى «سيولة فى تفكير المشاهد». ولعلنا نذكر أنهم بدأوا فى الظهور فى حياتنا بصورة حادة بعد أحداث سبتمبر 2001، واجتهدوا فى استخدام الأسلوب الإعلامى «الغربى» فى صناعة نجوميتهم فى دنيا الدعوة إلى الإسلام فى طبعته «الأمريكية»!!.