فى الأسبوع الأخير من ابريل الماضى ارتدى اللواء مصطفى زيد ملابسه الرسمية.. كان يومها فى كامل أناقته ولياقته ويقظته كالعادة. سيكرمه الرئيس مبارك ومعه عشرات من الضباط «المتميزين». وقف يومها اللواء مصطفى ثابتا، قويا، أدى التحية العسكرية، وصافح الرئيس بيده اليمنى، وتسلم «الوسام» بيده اليسرى. الأسبوع الماضى، وبالتحديد يوم الأربعاء وقبل الإفطار بساعة ونصف كان اللواء مصطفى زيد واقفا أعلى المحور يعاين مكان هبوط طائرة الرئيس مبارك ليفتتح «وصلة المحور الدائرى». وقف الرجل بنفس القوة والثبات واليقظة. يتحرك بهدوء. ويضع «خطة التأمين»، مشهدين كان فيهما الرئيس قاسما مشتركا، لكن المشهد الأخير كان قاسيا على اللواء «زيد» وأسرته وزملائه، الذين يعرفونه. أتوبيس يتبع جهة سيادية يأتى بسرعة رهيبة يزيح سيارة الشرطة، التى تقف على جانب الطريق ويدهس العميد مجدى عبد الله والمقدم أشرف فودة. ويكتشف جميع أفراد القوة بعد لحظات أن الأتوبيس أنهى حياة اللواء «زيد» فى لحظات. الحزن والحسرة والدموع، هى عنوان أسرة اللواء مصطفى زيد. زوجته وأبناؤه احمد «23 سنة» مهندس وأمل 18 سنة وايمن. فى لحظة غادرة، فقدوا الأب الحنون. فقدوا ابتسامته التى لا تتوقف، وهدوءه وحنانه واحتواءه لهم، كان اللواء زيد يرى أسرته قليلا. يخرج من منزله فى التجمع الخامس إلى أكتوبر أو الجيزة فى الثامنة، ليكون فى مكتبه عند دقات التاسعة. ملف خدمته لا يعرف معنى كلمة إجازة أو «راحة». اللواء زيد، كان يحب عمله، مجتهداً، نشيطاً دؤوباً قريباً من الضباط الذين يصغرونه، يحترمه الضباط الكبار. تخرج اللواء زيد عام «79» فى كلية الشرطة، لتبدأ أولى خطوات عمله مع الأمن المركزى، ليظل هناك عامين، وبعدها يبدأ عمله فى مديرية أمن الجيزة كمشرف على شرطة النجدة. كان صوته «إذاعيا» عندما يتحدث عبر الجهاز إلى رؤسائه فى ذلك الوقت، فى منتصف الثمانينات: «تعليماتك يا أفندم. توجيهات سعادتك».. أنا النقيب مصطفى زيد. كان البعض منهم يتعمد أن يستمع إلى «شياكة مصطفى فى الأداء وحلاوة الصوت»، حين يتحدث، وفى عام 1988 تحدث حركة «تطهير» فى مديرية أمن الجيزة يقودها زكى بدر وزير الداخلية، ويحول قرابة «18» ضابطا إلى التحقيق أو إلى نهاية الخدمة، بسبب علاقتهم بتاجر مخدرات كبير، ضبط بحوزته 8 أطنان مخدرات. وتأتى الفرصة ليصبح مصطفى زيد رئيسا لنقطة المهندسين. شهور قليلة ويحدث خطأ كبير من رئيس مباحث العجوزة ويتم إبعاده عن العمل، ويأتى الاختيار على الضابط الشاب المجتهد الملتزم. مصطفى زيد. يتنقل مصطفى زيد بين المناصب فى مديرية أمن الجيزة. كان ملفه خاليا من الجزاءات والخصومات والمخالفات. وقبل 3 سنوات يتم اختياره رئيسا لمباحث قطاع شمال الجيزة، وفى عام 2008 ظهرت فكرة إنشاء مديرية أمن 6 أكتوبر، ويعين الفقيد مديرا للمباحث الجنائية بها. الخبر كان سعيدا بالنسبة للواء «زيد»، ويتلقى التهانى من المقربين والأصدقاء والزملاء. ويسقط دون مقدمات داخل منزله ليصاب بكسر مضاعف. أتذكر تلك الأيام جيدا، هكذا يتحدث احمد الابن الأكبر للشهيد: وسط الفرحة، أصيب والدى بكسر مضاعف، ودخل غرفة العمليات لتجرى له جراحات وتركب له مسامير وشرائح ويظل ذراعه فى «محنة» طوال شهرين. كنت أشاهده «يدرب» يده اليسرى على الامضاء والكتابة، حتى يوقع بها ويسير العمل دون أزمات. والدى كان يخرج فى الثامنة صباحا ويعود فى الرابعة فجرا، كنت أنا الوحيد الذى أشاهده يوميا. أما أيمن وأمل فكانا يشاهدانه كل فترة. كنت استيقظ مبكرا لأذهب إلى عملى، وكان لقاؤنا قصيرا. كأنك تلتقى صديقك فى الشارع مثلا. لكن كنا نتحدث اكثر من مرة يوميا ب«الموبايل». كانت علاقة والدى بأمه غير عادية . كانت فى شقتها فى العمرانية حتى وفاتها قبل عام وشهرين . كان لا يأتى الينا فى التجمع الخامس قبل ان يزورها . تأكل من يديه . ويطمئن عليها ويقبل يدها ورأسها ويقول:«أنتظر دعواتك». يوم الاربعاء الماضى الكلام لاحمد وعند الثالثة ظهرا، اتصلت به، ودار حوار بيننا مدته 30 ثانية، اقسم بالله العظيم لا أتذكر تفاصيله، أو ما الذى قاله لى أبى أو ما الذى قلته. كنت فى طريقى إلى المنزل عند الرابعة ونصف، اتصلت به، كان هاتفه غير متاح. واتصل بى أحد الضباط فى مديرية أمن الجيزة، وسألنى عن أبى، واستغربت وحاصرته بالأسئلة، فقال: حادثة بسيطة. هو والسواق بتاعه». هذه المرة كاد قلبى أن ينخلع. لا أعرف لماذا، كان والدى يصاب كثيرا فى حوادث، وكان قلبى يحدثنى وقتها بأن الأمر سهل ويكون كذلك، لكن هذه المرة شعرت بخوف ورعب، كنت «مقبوضا». وأجريت عدة اتصالات، وتأكدت بعد ربع ساعة أن والدى توفاه الله. شعرت أننى فى «دنيا ثانية» لا أعرف ما الذى حدث. سارعت إلى المستشفى واتصلت بوالدتى وشقيقى أيمن وأمل. أخبرتهم أن والدى تعرض لحادث، وهو فى مستشفى العجوزة. كنت أتعمد أن أعطى لهم «خبر الصدمة» بالتدريج. نعم. المصاب كبير. فوالدك الذى ودعك صباحا وتنتظره على الافطار لن يعود. تجلس إليه تستمع إلى نصائحه وكلماته الهادئة. فجأة يضيع كل شىء. ولا تجده حولك، شقيقى أيمن كان «منهارا» فهو «الأصغر». جلست معه بعد الوفاة، وقلت له إن أمر الله نفذ، وأن والدى لقى وجه ربه وهو صائم وهو فى عمله، هو بين يدى الله، وسيكون بخير أكثر عندما نتماسك ونكون أكثر قوة. والدى توفى مساء الأربعاء الحديث مازال لأحمد وكان موعد طائرته المتجهة إلى السعودية فى العاشرة من صباح الخميس. كان فى طريقه لأداء العمرة، فهو كان حريصا على أدائها مرة أو أكثر كل عام. لا اعرف ما الذى سيحدث، هل سيصدر قرار استثنائى خاص بوالدى، لم يحدثنى أحد حتى هذه اللحظات، تحدث اللواء محسن حفظى مدير الأمن واللواء كمال الدالى واللواء عبد الوهاب خليل وكثير من زملاء أبى. لكن ما أعرفه أن يصدر قرار بالترقية. قرار استثنائى، والدى كان سيرقى إلى رتبة اللواء فى شهر أغسطس المقبل. مصطفى زيد. لن يستيقظ فى السابعة ونصف صباحا. ويذهب إلى عمله، لن يتصل بمرؤوسيه فى العمل عند التاسعة صباحا ويقول لهم: صباح الخير. شدوا يا رجالة... مصطفى زيد لن يعود الى أسرته فى الرابعة فجرا. مصطفى زيد لن يجلس على مائدة واحدة مع أبنائه أحمد وأمل وأيمن وزوجته... مصطفى زيد لن يقف أمام الرئيس مبارك لينال وسام الشجاعة. ولن يعاين مرة أخرى مكان هبوط طائرة الرئيس أعلى المحور... مصطفى زيد «مات». وتنتظر أسرته «تكريما لائقا» من وزارة الداخلية، تكريما بقدر «العطاء». وتنتظر قرارا جمهوريا. قرارا لن يعيد «مصطفى زيد» الى الحياة لكنه قرار يعطيه جزءا من حقه.