«مولد كهربائى تم توصيله بعدد من لمبات «الفلورسنت» عن طريق حبل ملفوف حول الأعمدة الكهربائية الموجودة أمام وزارة العدل».. تلك كانت الوسيلة التى استعان بها خبراء وزارة العدل لإنارة سلالم وزارتهم، استعداداً لأول إفطار جماعى لهم، بعد ما رفضت الوزارة إنارة أعمدتها الكهربائية، معلنين بذلك تحديهم للظلام الذى عاشوا فيه قرابة 50 يوماً متتالية، رافعين شعار «لا للظلم الذى فرضته الوزارة على خبرائها». ساعة كاملة قبل أذان المغرب كانت كفيلة بتحويل سلالم وزارة العدل إلى مائدة الإفطار الجماعى التى دعى إليها عدد من الشخصيات العامة من الإعلاميين والحقوقيين واعضاء مجلس الشعب والقانونيين. وفى الوقت الذى قام فيه بعض الخبراء فى «لجنة الطعام»، المكونة من 10 أفراد، بتسلم الوجبات لحصر أعدادها وتجهيزها والتأكد من أنها الوجبات التى تم التعاقد عليها، قامت مجموعة أخرى من اللجنة بفرش رصيف وزارة العدل أسفل سلم الوزارة، بسجاد استأجروه من أحد محال الفراشة القريبة، فضلاً عن تجهيز الطاولات التى أعدوها لاستقبال الضيوف، وقامت مجموعة ثالثة بفرش أعلى السلم بسجاد آخر تم شراؤه من قبل لاستخدامه فى أداء صلاة التراويح. وقبل أذان المغرب بربع الساعة اصطف ما يقرب من 1500 خبير على رصيف وزارة العدل أسفل السلم، على قضبان السكة الحديد متقابلين بطول السلم، توسطهم عدد من الشخصيات العامة بينهم النائب والكاتب الصحفى مصطفى بكرى، رئيس تحرير جريدة الأسبوع، والنائب سعد عبود عضو مجلس الشعب، وأحمد الدماطى مقرر لجنة الحريات بنقابة الصحفيين وخالد صلاح رئيس تحرير جريدة اليوم السابع وأحمد عبدالحليم داوود عضو مجلس الشعب، بينما اصطفت عائلات الخبراء أعلى سلم وزارة العدل، حتى تتمكن الزوجات وأطفالهن من الجلوس مع أزواجهن ومشاركتهم إفطار أول أيام رمضان. وبمجرد انطلاق أذان المغرب من مسجد «الشامية» المواجه لمبنى وزارة الداخلية، والذى يعد أقرب مسجد بالنسبة لمقر اعتصام الخبراء، انهالت الادعية من كل خبيرعلى حدة، فالجميع اتفق على التوجه للمولى عز وجل بالدعاء لحل مشاكلهم وفض الاعتصام، وإن اختلفت نصوص هذه الأدعية، متمنين أن يكملوا بقية إفطار شهر رمضان فى منازلهم وسط أسرهم. وبعد الدعاء تناول الخبراء وضيوفهم الإفطار الجماعى، الذى تلاه أداء صلاة المغرب جماعة فى نفس مكان الإفطار بعد تنظيفه، ثم صلاة الغائب على روح زميلهم أحمد حسن، الخبير بمكتب أسيوط، الذى أطلقوا عليه «شهيد الاعتصام الثانى»، حيث توفى أحد الخبراء فى بداية الاعتصام إثر إصابته بأزمة قلبية، بعد عودته من المبيت على سلم الوزارة لمدة يومين، أما أحمد حسن فقد لقى مصرعه اثناء عبوره أحد الشوارع بأسيوط، ليحجز تذكره سفره لحضور الإفطار الاجماعى بالقاهرة . ساحة سلالم وزارة العدل تحولت لأول مرة منذ بدء الاعتصام من ساحة يستخدمها الخبراء فى إبداء غضبهم واحتجاجهم ضد تجاهل الوزارة لهم، إلى ساحة يلهو فيها الأطفال مع آبائهم المعتصمين، بينما جلس بعضهم مع زوجاتهم، مستغلين فرصة حضورهن إلى الإفطار الجماعى، حتى يتمكنوا من الجلوس معهن ولو بضع ساعات، بعد غياب طال عشرات الأيام . 11 ساعة كاملة كانت الفترة الزمنية، التى قضتها الزوجة أمانى شوقى حاملة رضعيها الصغير عبد الرحمن - صاحب العشرة شهور - بين يديها، فى القطار المتجه من الأقصر إلى سلالم وزارة العدل بميدان لاظوغلى، لتتمكن من مشاركة زوجها إفطار أول أيام رمضان. أمانى فضلت تحمل مشاق سفرها لوحدها هى وطفلها إلى القاهرة، على ألا تتحمل مشاق الافطار دون زوجها، فهى على إيمان ب«مشروعية وعدالة» المطالب التى ينادى بها زوجها وما يقرب من ألفى خبير من زملائه. «يوم أو يومين بالكتير وهرجع على البيت تانى»، كانت هذه هى الجملة التى قالها الخبير عصام عبدالحميد بمكتب خبراء الأقصر، لزوجته قبل مغادرته المنزل منذ 50 يوماً، ومازال صداها يتردد فى أذنى الزوجة حتى لحظة حديثنا معها. اليوم أو اليومان اللذان كانت تتوقعهما الزوجة غياباً للزوج، تحولا إلى 12 يوماً ثم 48 يوماً، فغياب لأول مرة عن إفطار أول يوم رمضان بين أفراد الأسرة، متذكرة اليوم الذى أبلغها فيه زوجها بالاعتصام قائلة: «كان يوم الأحد الذى سبق الاعتصام بيوم، حين جلس زوجى معى وأبلغنى بسفره إلى القاهرة، لأنه سيشارك زملائه فى اعتصام أمام وزارة العدل، للمطالبة ببعض الحقوق، ولم أمانع لأننى على ثقة بأحقية زوجى وزملائه بتلك المطالب، كما أن يوما أو يومين لن يؤثرا معى، إلا أن هذا الاعتصام فتح أبوابه حتى هذه اللحظة، رافضاً غلقها فى أوجه المعتصمين. غياب الأب عن رضيعه 50 يوماً، جعله يرفض التواجد بين أحضانه، وكأنه يوجه له نظرة عتاب عن غيابه المستمر عن المنزل طوال فترة الاعتصام، ورغم محاولات الأب خلال الافطار الجماعى حمل الرضيع بين يديه، كان يبادره الطفل بالصراخ والارتماء فى أحضان والدته، وهو الأمر الذى وجدته الزوجة إحدى أكبر المشاكل التى واجهتها طوال أيام الاعتصام، من غياب الأب عن ابنه، الذى يحتاج إلى حنانه فى مثل هذه السن. 50 يوماً كاملة تنقلت خلالها الزوجة بين منزلى والداها ووالدى زوجها، خوفاً من الجلوس بمفردها فى منزلها، وحتى يأمن عليها الزوج خلال فترة غيابه، متمنية أن يصلوا إلى حل يفض اعتصامهم فى أقرب وقت حتى يجتمع شمل الاسرة من جديد. آمال كثيرة حملتها أمانى طوال فترة سفرها متجهة إلى القاهرة، كان من بينها أن يقبل وزير العدل دعوة الخبراء على الإفطار الجماعى، ويناقشهم فى مطالبهم، حتى يتوصل معهم إلى حل يرضى جميع الأطراف، وتعود كل زوجة ممسكة بيد زوجها، عائدين إلى منزلهم بعد غياب دام 50 يوماً. الوضع لم يختلف كثيراً بالنسبة للزوجة هيام محمود زوجة الخبير محمد طاحون بمكتب خبراء الشرقية، سوى الاشاعات التى أحاطت بها من قبل جيرانها، بأن زوجها تزوج عليها امرأة أخرى فى القاهرة، فجيرانها لم يعتادوا على غياب زوجها كل هذه الفترة، وهو ما أضحك الزوجة كثيراً وجعلها تلملم الصحف اليومية التى تغطى الإضراب، لتعرضها على جيرانها أولا بأول، دفاعاً عن الزوج الغائب . هيام لم تتحمل فقط محاولات الدفاع عن زوجها أمام جيرانها فقط، وإنما تحملت مسؤولية 4 أطفال، ثلاث فتيات تتراوح أعمارهن مابين 10 و4 سنوات، وولد صغير فضل البقاء مع والده على سلم الوزارة نظراً لتعلقه الشديد به، قائلة: «مسؤولية تربية الاطفال فى مثل هذه السن صعبة جداً وتحتاج إلى وجود الأب، بحاول أكون أب وأم فى نفس الوقت بس الواحد بييجى عليه فترة ويتعب، أنا بجد تعبانة مع الأولاد، كفاية لما بيتعبوا منى بالليل مش بعرف أروح بيهم فين؟». «أنا نازل القاهرة لمدة يومين، بالكتير قوى أسبوع وهرجع تانى»، كانت هذه آخر كلمة سمعتها هيام من زوجها قبل سفره إلى القاهرة واعتصامه أمام وزارة العدل، ليتحول الاسبوع إلى 50 يوماً دون أن ينتهى الخبراء إلى شىء، بحسب قولها، مؤكدة أنها لا تملك هى وغيرها من زوجات الخبراء سوى الدعاء لازواجهن، متمنية انتهاء هذه الأزمة خلال أسبوع على الأقل، ويتمكن الخبراء من تمضية باقى الشهر الكريم فى منازلهم. لم تتوقع هيام الأعداد الكبيرة من الخبراء وزوجاتهم، الذين تركوا منازلهم أول أيام رمضان، ولم تتوقع أيضاً الشخصيات العامة التى حضرت الإفطار من الاعلاميين والقانونيين واعضاء مجلس الشعب، مما زاد اليقين بداخلها بمشروعية الحقوق التى نادى بها جموع الخبراء.. «يا جماعة الخبراء مش بيعملوا حاجة غلط، دى حقوقهم وهم بيطالبوا بيها، ادعوا لهم ربنا يوفقهم ويعينهم ويستجيب لمطالبهم»، هذا هو الرد الذى ترد به الزوجة هيام، على كل واحد يحاول التشكيك فى مشروعية وعدالة مطالب الخبراء، لا تترك المتحدث إلا بعد أن تقنعه بأن زوجها وغيره من الخبراء على حق ويقين بما ينادون به، مستدلة بالدعم المعنوى والتضامن الذى حصل عليه الخبراء من المحامين وأعضاء مجلس الشعب والحقوقيين.