قد يتخيل من يشاهد قناة الجزيرة الإنجليزية أنه يتعرف على ما يدور فى مخيلة الشعوب العربية إزاء أحداث المنطقة والعالم. قد يتصور أن الجزيرة الإنجليزية فى شكلها ومحتواها ترجمة للجزيرة العربية. وبالتالى قد يستنتج هذا المشاهد أن «الجزيرتين» وجهان لعملة واحدة من حيث اختيار الأخبار ووضعها فى «برواز» واحد للمشاهدين كافة، العربى منهم والغربى. ولكن الحقيقة قد تختلف، فالجزيرتان ليستا سواء. شبكة قنوات الجزيرة ناجحة لمعرفتها بتنوع الخلفيات الثقافية والسياسية لمشاهديها، فهى تخاطبهم وفقا لتوقعاتهم، فيزيد انتماء جمهورها. بالنسبة للمشاهد العربى، تاريخ الجزيرة معروف منذ 1996. قلبت موازين الإعلام العربى بعد أن كان معتمدا على تليفزيون الدولة State TV لنقل مقولات الحكومات وحجب الكثير مما يجب معرفته. فكما قال الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو «المعرفة-سلطة». ولزمن طويل ظلت الحكومات فى العالم العربى المتحكِم الأوحد فى سبل المعرفة وخاصة الأخبار: ماذا يقال، من يقوله، أين، متى، لماذا وكيف يقال. كان الحال هكذا حتى كسرت الجزيرة قاعدة احتكار المعلومات. وباتت الحكومات العربية مضطرة للظهور والتفاعل مع معارضيها ومستجوبيها لشرح وتبرير مواقفها وقراراتها على مرأى ومسمع من الجميع، إلى أن وصلنا لصيغة الجزيرة المعروفة الآن، فثلاثى «التضاد- الصراع- الصراخ» على برامجها الحوارية الأكثر شعبية يبدو وكأنه صار جزءا من شخصية العربى إلى حد ما. فهو يريد أن يرى نفسه يُحارِب وينتصر وإن كانت الحرب كلامية. يريد الجدل وليس بالضرورة الوصول إلى حل: فكم كان محروما من الجدل ذاته! إذن تركيبة الجزيرة تلبى احتياجات فى نفسية المشاهد العربى، ولذلك أحبها. وإن كانت قد سُجلت فى القائمة السوداء- ولأسباب متباينة- لدى: معظم الأنظمة العربية، حركة طالبان، إسرائيل، تنظيم القاعدة، السلطة الفلسطينية والإدارة الأمريكية السابقة لجورج بوش الابن . والقائمة قد لا تنتهى. أما الجزيرة الإنجليزية فتختلف. ولادتها ليست رد فعل أو ملء لفراغ «الحريات» فى الأنظمة العربية الأوتوكراتية Autocratic وإنما بدأت لتنافس قناتين عملاقتين: البى بى سى وورلد البريطانية BBC World وال«سى إن إن» إنترناشيونال الأمريكية CNN International. لغة نبرة الجزيرة الإنجليزية أهدأ من العربية، مستخدمة وقار اللهجة البريطانية تفضيلا على ديناميكية اللهجة الأمريكية. شكل، الألوان متابينة، فالجزيرة العربية يهيمن عليها اللون الأحمر الحسى، المثير، أو Sensationalist بلغة الصحافة، أما الإنجليزية فألوانها باهتة: ذهبية، سماوية، بيضاء.. تحاول الحفاظ على الحيادية حتى «الملل» أحيانا! وبالطبع المحتوى يختلف. أول الاختلافات هو عدم تحيز الإنجليزية الكلى للقضايا العربية كمواضيع على شاشتها. فالقناة تخاطب متحدثى الإنجليزية فى كل مكان ولذلك هدفها تقديم قضايا من منظور أكثر عالمية وشمولا للآراء المتعددة فيما يُسمى «شعوب الجنوب» فى أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية وليس بالضرورة التمركز حول الذات العربية والإسلامية Arab -centric/Islam-centric. وللسبب نفسه بعض العرب انتقدوا الإنجليزية فى تغطيتها للحرب على غزة مثلا زاعمين أنها «لم تكن من الموضوعية من شىء» حيث «ساوت بين الضحية والمجرم». وأسأل هل الشكوى هنا من «عدم الموضوعية» أم من «عدم التحيز» للقضية الفلسطينية؟ هل الناقدون العرب للجزيرة الإنجليزية يريدونها قناة «متحيزة» للشأن العربى أم «موضوعية» فى نقاشها لهذا الشأن كى تصل إلى المشاهد غير العربى؟ فعندما استحسن مشاهدوها الغربيون أداءها «المتوازن والموضوعى» فى تغطية غزة أشادوا بها وبالتبعية دافعوا عن «الجزيرتين» العربية والإنجليزية معا وإن لم يعرف الكثير منهم أن النبرة وطريقة نقل الخبر اختلفتا كثيرا بين القناتين! فهذا يثير التساؤل: هل الجماهير مقسمة لهذا الحد وبالتالى الإعلام يغذى فقط أفكارهم المسبقة دون الجدية فى تقديم فكر «الآخر»؟ أم أن الثورة الإعلامية حقا هى أن نصل بالخبر- وتأويله أيضا- إلى أن يكون «واحدا» للعربى والغربى معا؟ أم أن هذه الحالة الأخيرة ما هى إلا حالة هيمنة الرأى الأوحد ويجب الحفاظ على التعددية فى التغطية الإعلامية؟ إذا أجبنا أن التعددية واجبة فإن «الجزيرتين» فى اختلافهما ناجحتان كما هما. واستقطاب جماهير مختلفة ومخاطبتهم كلٍ على حدة ليس عيبا. ولكن قد يدل هذا على دوام الفجوة الكبيرة بين «الأنا» و«الآخر». ويبقى دورنا الفردى كمواطنى هذا العالم أن نسعى لتغيير المفاهيم وتبادلها حتى نتقارب وكى نلبى حاجتنا الإنسانية للتواصل فيما بيننا. فهل يجىء اليوم الذى تقترب فيه «الجزيرتان» اللتان تبدوان حتى الآن وقد فصلهما بحرٌ من الاختلاف؟