أظهرتْ دراسةٌ قامت بها مجموعة من العلماء البريطانيين أن النملَ لا يقبلُ إلا العيشَ فى أفضل ظروف متاحة. فى جامعة بريستول، وضع الباحثون النملَ أمام خيارات: أعشاشٌ قريبةٌ رديئة، وأخرى بعيدةٌ وجيدة. ولم أندهش حينما قرأتُ أن النملَ اختار المشقّةَ وصولاً للجمال؛ علمًا بأن المساكنَ الجيدةَ أبعدُ عن تلك القريبة بتسعة أضعاف المسافة. قليلٌ من النمل اكتفى بالمنازل القريبة، ثم سرعان ما عَدَل عن رأيه ولحق بالصفوة ممن لفظوا «الرداءةَ» طلبًا للجمال. لا أدرى لماذا تذكَّرتُ تلك الدراسة حين وصلتنى رسالةٌ غاضبةٌ حول ركاكة لغة المصريين اليوم؟ أيةُ مقارنة عقدَها ذهنى بين اللسان المصرىّ الراهن، الذى «يستسهل» الركاكة، وبين النمل الذى يسعى نحو الكمال؟ كاتبُ الرسالة أستاذٌ فى أمراض القلب بجامعة المنيا اسمه أ.د. ناصر طه. حزينٌ من موات اللغة العربية الراقية على ألسن أبنائها. قال إننا لم نعد نستخدمها حتى ضَمُرتْ داخلنا. شأنها شأنَ العضو الحيوىّ الخامل الذى يفقد قواه، ليس جرّاء العمل، بل جرّاء الكسل والخمول والإهمال. حزينٌ لأن تلامذته بالجامعة، الذين حصدوا أعلى الدرجات فى الثانوية العامة، يتحدثون الإنجليزية، ولا يلجأون إلى العربية إلا مضطرين، فيخطئون بها كأنهم ليسوا عربًا! حزينٌ وباك على لغتنا الجميلة، رغم تخصصه العلمىّ، فماذا عن أرباب اللغة من شعراء ودارعميين وأساتذة البيان؟ حدثنى عن تقاريرَ تصلُه من أطباءَ بالمستشفى مكتوبة بلغة رديئة زاخرة بالأخطاء النحوية، بل والإملائية. كان آخرَها التماسٌ وصله من طبيب مرؤوس يشكو زميلَه ويطالبه بأن يوقِّع عليه عقابًا (راضِعًا)!! والحقُّ أن المرءَ ليندهشُ من عدم احترامنا لسانَنا العربىّ، فى مقابل اعتزاز كافة أمم العالم بألسنهم الأم! فأنتَ لو ألقيتَ التحيةَ على مواطن ألمانىّ بالإنجليزية لن يرد عليك السلام! بينما فى بلادنا نتباهى بمعرفتنا لغةً أوروبية، فندسُّ بين الحين والحين كلماتٍ أجنبيةً، ثم نخطئ فى كتابة جملةٍ عربية سليمة! جولةٌ واحدةٌ فى شوارع مصرَ تجعلُك تظنُّ أن بلادنا واقعةٌ تحت احتلال إنجليزىّ أو فرنسى؛ إذْ تجدُ محالاَ اختارت أسماءها من معاجم الغرب: أويزيس، ستايل، لاجولى، سمارت شوب، دريم، سيزورس، موون سيكريت، إنفنتى، اتنشن، جرين فالى، دريم هووم، بيوتيفول آيز، الخ! رغم أن ترجمات ما سبق بالعربية، برأيى، أكثر جمالاً وجاذبية للمستهلِك: الواحة، أسلوب، الجميلة، الدكانُ الأنيق، الحُلم، المقصّ، سرُّ القمر، اللانهائىّ، انتباه، الوادى الأخضر، البيتُ الحُلم، العيونُ الساحرة. ولهذا انتبه الأذكياءُ، الغيورون على هُويتهم ولسانهم، إلى أن لغتنا قادرةٌ على إعطائنا معانى لافتةً وذكية فاختاروا لمحالّهم أسماءَ مثل: الإسكافىُّ السعيد، كراكيب، شبابيك، بساطة، فرحة، السلاملك، خير بلدنا، أيامنا الحلوة، لؤلؤ وأصداف، الخ. كنّا قديمًا نعتزُّ بلغتنا، حتى ونحن واقعون تحت الاحتلال الإنجليزى، أما الآن، فنجد الإنتلجنسيا والكتّابَ أنفسهم فقراءَ البيان ركيكى اللغة. (إنهم يدهسون القارئَ «بعربية» متهالكة!) قالها المترجمُ الكبير طلعت الشايب فى حوار قديم، أجراه معه الشاعر سمير درويش. وأقرأُ الآن فى مجلة «بروسيل» أن الرئيسَ الفرنسىّ نيكولا ساركوزى وصفَ العربيةَ بأنها «لغة المستقبل، والعلوم، والحداثة»، تزامنًا مع سعى الحكومة الفرنسية لتدريس العربية فى جميع مدارسها! أشكرُه طبعًا، ثم أبتسمُ، وأتمنى بالمقابل أن تسعى حكومتُنا لتدريس العربية فى مدارسنا أيضًا! حتى لا يتكرر ما حدث بالأمس على القناة الثالثة بالتليفزيون المصرى، حينما أطلَّ علينا رئيسُ أحد أحياء القاهرة يصرّح بأن الحىَّ غير مسؤول عن كارثة موت العشرات تحت أنقاض أحد المنازل المنهارة، بل إن قاطنى العقار هم المسؤولون، «لأن المنزل كان (قايل) للسقوط»!!! [email protected]