يعتقد زميلى وصديقى العزيز علاء الغطريفى أن النيل «هييجى.. هييجى» رداً على ما كتبته فى هذه المساحة، الأسبوع الماضى، تحت عنوان: «حتى لا نقول يوماً: النيل مجاشى» ويرى أنه رغم الاتفاق فى مبررات القلق حول حالة التذمر التى تنتشر بين دول المنبع من وقت لآخر وتتصاعد هذه الأيام قبل أيام من الجولة الأخيرة لمفاوضات اتفاقية حوض النيل الجديدة المقرر عقدها فى القاهرة، الشهر المقبل، فإنه يعتقد بثقة أن هذه الدول حتى فى حالة تصاعد غضبها، وفى الوقت نفسه تزايد التجاهل المصرى لكل مطالبها، لن تجد ما تفعله، ويستند فى ذلك إلى عدة حقائق جديرة بالاهتمام، منها أن إمكانات هذه الدول لا تسمح لها ببناء سدود أو إقامة مشروعات يمكن أن تعيق تدفق النهر أو تؤثر فى مساره وحركته. كما أن الإطار القانونى الذى يحكم حوض النيل لا يسمح للبنك الدولى بتمويل أى مشروعات كتلك طالما لا تحظى بموافقة جماعية من كل دول الحوض مجتمعة، أما هاجس تدخل أطراف إقليمية ودولية وإتاحتها تمويلاً لهذه المشروعات يستبعده علاء أيضاً، معتبراً أن مشروعات المياه والسدود تحديداً من المشروعات باهظة التكلفة التى لا تستطيع دولة أن تغامر بسداد فاتورتها الاقتصادية، ناهيك عن الأزمات السياسية التى من المؤكد أن يحدثها هذا التدخل. ربما يفكر علاء بنفس ذهنية صانع القرار فى مصر أو من يديرون هذا الملف، وإن كان يملك من الوعى ما يجعله يعترف بأن كل ذلك غير كاف للاطمئنان على قضية تمس الحياة والمستقبل وليست محدودة بزمان. فيما يربط الأديب والناشط النوبى حجاج أدول بين ما يسميه «المسألة النوبية» وقضية حوض النيل ويجدد طرحه لمبادرة تنطلق من الاستجابة للمطالب النوبية فى الاستقرار والتوطين والتنمية، ثم الانطلاق بالنوبة كجسر يربط شمال النهر بجنوبه ويحقق لمصر تقارباً ثقافياً مع جنوب شرق القارة حيث ينبع ماء النهر. وفى تلك المبادرة التى أرسلها إلىّ رداً على ما كتبت، يقول «أدول»: أطالب برؤية شاملة تُطْلِقُ نهراً ثقافياً يتصاعد بعكس اتجاه مياه النيل، يتصاعد ويتصاعد حتى يصب فى منابع هذا النهر الأسطورى، ويعمل على اكتساب أفئدة شعوبها، تمهيدا لنهر ثقافى/اقتصادى ذى اتجاهين نفعيين من المصب للمنبع ومن المنبع للمصب، فيربط شعوب حوض النيل بمصالح مشتركة، ويصير أهل المنبع مدركين أن المياه تنبع من أوطانهم لتذهب إلى شعوب صديقة ذات نفع لها، وعليه، نتحاشى التنافس الصدامى الكاره الضار، خاصة بنا نحن المصريين آخر بلد يمر به النيل، نحن بلد المصب أضعف منظومة هذا الحوض مائياً، والمتوقعين التلاعب من أعداء أمتنا فى مياه النيل الشريان الأوحد لنا، ومن لا يعرف أننا صرنا تحت مستوى الفقر المائى فهو جاهل، ومن لم يعرف أن حروب المياه بدأت بالفعل فهو غافل. ويضيف «أدول» أنه أرسل عدة رسائل إلى المسؤولين ومحافظى أسوان المتعاقبين بحثاً عمن يناقشه فى أفكاره، ومنها رسالة أرسلها إلى وزير الثقافة عام 1993 تتضمن فكرة مهرجان ثقافى للرياضات والفنون التقليدية الأفريقية، يربط مصر بالجنوب يشابه فى غرضه مهرجان أصيلة بالمغرب العربى، ووصله رد من الوزارة يفيد بجودة الفكرة، ثم وصلت الفكرة إلى السيد محافظ أسوان الأسبق اللواء صلاح مصباح، لكن لم ينفذ المشروع. يطرح «أدول» طرحاً مقارباً لما طرحته حول ربط مصر بدول الحوض بعلاقات متكاملة وحميمية ودافئة على جميع المستويات ويسعى، وفق نص رسالته، لدور ثقافى اقتصادى جنوبى لمصر، ويرى أن النوبيين المصريين هم المؤهلون لأداء هذا الدور، وبتعبيره: «أن نكون نحن اليد السمراء المصرية الطيبة التى تمتد لتتكامل مع بقية الشعوب الجنوبية. وهكذا فيما أرى يجب أن يكون الفكر البعيد للأمة المصرية». وتعقيباً على المقال نفسه، يركز جوهر داوود فى سياق اهتمامه بالملف ومخاوفه من سياسة الإهمال التى دأبت الحكومة المصرية على انتهاجها تجاه هذا الملف على إثيوبيا، مشيراً إلى أنها المصدر ل85 بالمائة من مياه النيل التى تصب فى مصر، معتبراً أن خطورة وضع إثيوبيا أنها الدولة الوحيدة التى لم توقع على معاهدتى 1929 و1959 وهما الإطار القانونى الوحيد لتنظيم مياه النهر، لأن إثيوبيا لم تكن تحت الاحتلال البريطانى يومئذ، وأنها أصلاً لم تخضع لاحتلال مستعمر فى تاريخها كله، تاريخها الممتد إلى ثلاثة آلاف سنة، إلا ما كان من الاحتلال الإيطالى قصير العمر لها (ست سنوات من 1936 إلى 1942). وهى من ثَمّ غيرُ ملزَمة ولا معنيةٍ بهاتين المعاهدتين! وهى مع ذلك الدولة الوحيدة التى لا تستفيد من قطرة واحدة من ماء النيل الذى يخترق أراضيها، إلى جانب أن إثيوبيا بلد يبلغ عدد سكانه 80 مليون نسمة وهو عدد أكبر من عدد السكان فى مصر أو يساويه، وهى مع ذلك من أفقر بلدان العالم. يعيش أكثر من 90 بالمائة من سكانها فى الريف ويعتمدون على الزراعة الموسمية، يضربها الجفاف بصورة دورية ضرباً يهلك الحرث والنسل لاعتمادها الأساسى على مياه الأمطار. ويحذر «داوود» من أنه بضغط هائل من هذه الظروف القاسية والانفجار السكانى الهائل غير المنضبط لا بالوعى ولا بالتخطيط تجد إثيوبيا نفسها مضطرة إلى البحث عن وسائل وتدابير تحتجز بها قدراً من مياه النيل لا يستهان به فى أراضيها للاستعمال الزراعى لإطعام الجائعين من سكانها. إذن، فالأمر أعظم من مجرد الشعور بالغبن فى حصة المياه. إنه الصراع من أجل البقاء ومن أجل توفير أهم مقوم من مقومات البقاء وهو الغذاء. ويضيف أن لدى مصر فرصة تاريخية لبناء منظومة من شراكات استراتيجية حقيقية تمس صميم الحياة الاقتصادية فى البلدين، وتتمثل فى تبادل تجارى منصف، ومشاريع تنموية وبنى تحتية تقوم على الأرض، وتقوم على أساس من المنافع المتبادلة والمتكافئة. لم يختلف أحد تقريباً مع ما طرحته حول الحاجة إلى بناء شراكة حقيقية واستراتيجية مع دول النهر، تنسج باهتمام وتركيز يوازى تركيز النظام فى قضايا الصراع العربى - الإسرائيلى والعلاقات العربية، وتتحرك بدعم سياسى هائل من صانع القرار، لبناء هذه الشراكة مع حكومات وشعوب هذه الدول، وهى شراكة فى صالح المستقبل والأجيال الجديدة، وعملية لابد أن تكون فى حالة بناء مستمر، ولا يجب أن تتعطل بسبب اطمئنان مؤقت بأن هذه الدول «ما بيدها حيلة».. حتى الآن. [email protected]