كنت فى الجاهلية أصنع صنماً من «عجوة» أعبده نهاراً وآكله ليلاً .. هكذا كان يصف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - حاله قبل أن يمن الله عليه بنعمة الإسلام . وقد كان الفاروق عبقرياً عندما اختار «العجوة» كمادة لصناعة هذا الصنم . فالبلح الذى تصنع منه العجوة «مستوى ع الآخر»، وبالتالى فقابليته للتشكيل عالية، كما أنه يتماسك بسهولة - فى الشكل الذى تصوره فيه - بمجرد تركه فى الهواء، وحتى «الذباب» الذى يطوف حوله بالآلاف لا يستطيع أن يسلب منه إلا القليل، ليبقى التمثال ثابتاً فى مكانه حتى تمتد إليه يد الإنسان الذى سئم من عبادته طوال النهار ليأكله فى الليل . أقول ذلك بمناسبة حالة الغضب التى سيطرت على لاعبى المنتخب القومى المصرى وجهازه الفنى وأعضاء اتحاد الكرة، بسبب «شد السلخ» عليهم بعد الهزيمة من الولاياتالمتحدةالأمريكية بثلاثة أهداف نظيفة، وكان قد سبق عملية «السلخ» تلك فاصل من المدح والاحتفال بالأداء المتميز الذى قدمه اللاعبون أمام كل من البرازيل وإيطاليا . فبمجرد انتهاء مباراة أمريكا تحول الكثيرون بقدرة قادر من النهار الإيطالى الذى عبدوا فيه «تمثال العجوة» إلى الليل الأمريكى الذى قطعوا فيه هذا التمثال والتهموه وهضموه، لكن الفارق بين صنم العجوة الذى صنعه الفاروق عمر، والتماثيل المعاصرة، أن الأول لا يفرح عندما يعبد، ولا يغضب عندما يؤكل، أما الثانى فأمره مختلف، إذ بإمكانه أن ينقلب على عابديه وأن يدير لهم ظهره حتى حين ! . والجمهور - من ناحيته - يرى أن من حقه الغضب على «اللعيبة» بحكم أنه العنصر الأهم فى صناعة نجوميتهم وبناء شهرتهم . فهو الذى يرفع صورهم فى كل مكان، ويطالب بإقامة التماثيل لبعضهم فى الميادين العامة . أما اللاعبون والمدربون والنقاد، وحتى «المدلكاتية!» فيرون - من ناحيتهم - أنهم أوتوا المجد والشهرة على علم عندهم، وأن بإمكانهم معاقبة من نالهم بسوء وأراد أن يأكلهم بعد الليل الأمريكى . وأبسط عقاب هنا هو التوقف عن اللعب، وقد ردد الكابتن «محمد أبو تريكة» أنه إذا لم يرد الاعتبار إلى اللاعبين الذين تم اتهامهم ظلماً بمرافقة بنات الهوى ليلة مباراة الولاياتالمتحدة فسوف يعتزل اللعب الدولى . وقد كان الكابتن فى منتهى الثقة فى ألم العقاب الذى يوقعه على الجمهور وهو يردد هذا الكلام، فلا أشق على نفس العابد من أن يهرب منه التمثال الذى يعبده، خصوصاً خلال ساعات النهار! . لكن الله سلم، وتم إعادة الأمور إلى نصابها، والتماثيل إلى نصبها، حين خرجت رموز السياسة والفن والرياضة لاستقبال كتيبة الساجدين فى مطار القاهرة، وكان على رأس المستقبلين السيد جمال مبارك . وفى لمح البصر بادرت عدسات الإعلام إلى نقل وقائع ما يحدث، وانطلقت البرامج الرياضية تغرد بإنجازات هذا الجيل من اللاعبين، وما يتمتعون به من قيم وأخلاق رفيعة، والأهم من ذلك رضاء الحكم والحكومة عنهم !، وبدأ الجميع يذكّرون ببرقية التهنئة التى أرسل بها السيد الرئيس وأشاد فيها بأداء لاعبى المنتخب أمام إيطاليا، خصوصاً الكابتن «عصام الحضرى» الذى بذل كل ما فى وسعه لحماية العرين المصرى من أية أهداف يمكن أن تدخل مرماه فى هذه المباراة، ليدخرها لمباراة الولاياتالمتحدةالأمريكية! . هذا «الحارس» الذى كانت تهتف له الجماهير «ارقص يا حضرى» فى النهار أكلته الجماهير وشيعته باللعنات عندما هرب - بليل - من الأهلى للاحتراف فى نادى «سيون»، بل وأصبحت تشمت فيه كلما دخل مرماه هدف، حتى ولو كان هذا المرمى هو مرمى المنتخب المصرى، وحتى لو كان الذى يحرز فيه هو الأمريكان . هذا الانقلاب الذى يحدث فى حياتنا الرياضية آلاف المرات هو بالضبط ما تلخصه العبارة العبقرية لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يشخص حاله «صنم العجوة» الذى كان يعبده بالنهار ويأكله بالليل، وهذه الحالة تعجب الحكام والحكومات الضعيفة أشد الإعجاب، لذلك تحرص - أشد الحرص - على حماية تلك الآلهة، بل وتحاول أن تستفيد من شعبيتهم، ومن قدرتهم على نشر الهزل بين الناس، بل وتحويل الهزل إلى منتهى الجد . ومن ير حالة الاهتمام التى تحلل بها مباريات «الكورة» سوف يلاحظ كيف يمكن أن يتحول الهزل إلى جد فى حياة شعب من الشعوب . فهناك تدقيق فى وصف كل شاردة أو واردة فى المباراة، وحالة من الاستغراق فى التحليل الفنى لأداء اللاعبين والمدربين والحكام . ولو كنا نهتم بتحليل أوضاعنا السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية بنفس الدرجة من الجدية والتفصيل لاختلف حالنا كثيراً! . وبصفة عامة يعكس وصول الناس إلى هذه الحالة من التعامل الجاد مع قضايا «الكورة» عبقرية الحكومات المصرية المتعاقبة فى تشكيل «العجوة المصرية» على الصورة التى تحبها وتهواها . فزمان كانت الحكومة حريصة على دفع الكثير من المال حتى تذاع مباريات «الكورة»، وكان البعض يقول إنها تفعل ذلك من أجل إلهاء الناس، أما الآن فالناس تدفع من «جيبها» من أجل أن «تتلهى على عينها»، وليس أدل على ذلك من اتجاه شركات التليفزيون المدفوع التى تحتكر مباريات «تماثيل الفراعنة» إلى رفع سعر الاشتراك فى خدماتها، وكذلك اتجاه المقاهى والكافيتريات إلى رفع سعر الجلوس على كرسى لمشاهدة المباراة - غير المشاريب - إلى عشرة جنيهات فى بعض التقديرات . هل هناك عبقرية أكثر من ذلك ؟ فبدلاً من أن تصرف الحكومة على «إلهاء» الشعب أصبح الشعب ينفق من «قوته» على «دهولة» نفسه . والشعب الطيب لا يستوعب أن هذه «الدهولة» التى يعيش فيها تتحول إلى سيول من الأموال عبر الإعلانات والاشتراكات، والاتصالات، يصب نصيب منها فى جيوب آلهة «العجوة» التى صنعها بيديه، وسالت الملايين فى جيوبها عندما عبدها الجمهور نهاراً، ثم غضبت أشد الغضب عندما حاول أن يأكلها ليلاً! .