من منا لم يجمد مكانه، متقوقعا يتأمل قسرا ضراوة تلك المشاهد المرعبة للموت الزاحف التى صورتها الأفلام الأجنبية التاريخية فى عصر البلازما والأبعاد الثلاثية، لقرى ومدنٍ وأممٍ كاملة ضربها الطاعون، فتناثر سكانها، رجالا ونساء وأطفالا، فى الشوارع مشوهى البشرة، من قمم رؤوسهم لأخمص أقدامهم، بعضهم صرعى، وبعضهم مادين أذرعهم، طالبين العون المستحيل، بأصابع متآكلة، وأعين حمراء جاحظة، لا تنظر إليك عبر عدسات الكاميرات ال «ديجيتال»، بقدر ما ترى أمامها شبح الموت شاخصا فى أبشع صوره. فى ذات هذا العصر الذى تحول فيه الكون إلى قرية صغيرة، اجتاحت «أنفلوانزا الطيور» العالم قبل بضعة أعوام، فأطلق عليها الكثيرون «طاعون العصر»، ولكن ها هو «الموت الأسود» بنفسه يستيقظ كالمارد من مرقده، معيدا ذكريات أسوأ كابوس عاشه الجنس البشرى عبر التاريخ، بما حفره فى العقل الجمعى للملايين من سكان قارات العالم القديم فى أوروبا، وأفريقيا، وآسيا، من قصص إبادة جماعية وحصدٍ للأرواح، وقفت أمامها جحافل الجيوش وعتاة جنرالات الحروب والحملات العسكرية، ما بين عاجزين ومستسلمين لهذا الموت المجاني، الذى أتى على ما لا يقل عن 200 مليون نسمة. ظهر الطاعون فى موجات متقطعة، وكان يسكن لعشرات السنين، تُمحى خلالها ممالك، وتُدمر حضارات، وكما كان يهاجم فجأة، كان يختفى فجأة، دون أن يعلم أحد لماذا جاء وكيف غاب، ويأتى أول ذكر له فى التاريخ خلال القرين ال 5 وال 6، ممتدا من منطقة الشرق الأوسط إلى حوض البحر المتوسط، وتسبب فى مقتل نصف سكان هذه المناطق، والثانى ضرب أوروبا ما بين القرنين ال 8 وال 14، وتسبب فى وفاة حوالى 40 % من شعوب أوروبا، فيما سجلت المرة الثالثة فى الصين عام 1855 ومنها انتشرت إلى القارات الأخرى. ولكن بحسب «موسوعة تاريخ العالم»، بدأ الوباء من شبه جزيرة القرم، القريبة من أوكرانيا حاليا، مطلع عام 1347، عندما بدأ كبؤرة الزلزال الأرضي، الذى اتسعت حلقاته فيما بعد مع الأسفار والحملات العسكرية، وعبر الموانئ والسفن المتنقلة، حاملة البضائع والأمتعة... والجرذان والبراغيث. وتقول الموسوعة إن حربا قامت فى مدينة القرم بين التتار حول قلعة تحصن بها جماعة من أهل البندقية، وعندما اكتشفوا تفشى هذا المرض المجهول بينهم وهم محاصرون، قرروا شن أول حرب «جرثومية» عرفها التاريخ، حيث رموا بالمنجنيقات الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون، بدلا من الصخور والحجارة، وهو ما أدى إلى نقل المرض للمرة الأولى إلى الإيطاليين الذين تساقط عليهم الطاعون من السماء كالمطر، قبل أن يستقلوا سفنهم عائدين لبلدهم مذعورين ومحملين بالجراثيم التى انتشرت فيما بعد فى القارة الأوروبية بأكملها، من البندقية إلى فرانكفورت إلى باريس ولندن وكوبنهاجن وأوسلو، فقضى فى تلك الموجة على نحو ثلث سكان أوروبا الذين كان يصل عددهم آنذاك إلى حوالى 100 مليون نسمة. وهزم الطاعون نابليون بونابرت، قائد الحملات العسكرية الفرنسية فى القرن ال 18، بعدما حملت جيوشه الجرثومة الفتاكة من أوروبا إلى الشرق، لاسيما أثناء حصار يافا، كما رافق سقوط الحضارة الإسلامية، لذلك كتب «ابن خلدون» عن الطاعون فى كتاباته قائلا: «انتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع.. وخلت الديار والمنازل.. وضعفت الدول والقبائل.. وتبدل الساكن وكأن بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه». كما قال لويل ديورانت فى كتابه «قصة الحضارة»: إن «وباء الطاعون حدث مألوف فى تاريخ العصور الوسطى، فقد أزعج أوروبا 32 سنة من القرن ال 14، و41 سنة من القرن ال 15، و30 سنة من القرن ال 16»، ولكن ديورانت رجح أن يكون الطاعون قد جاء إلى أوروبا «مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التى ترسو على مارسيليا».