يمثل خطاب باراك أوباما إلى العالم الإسلامى من القاهرة يوم 4 يونيو نقطة تحول مهمة فى الاستراتيجية الأمريكية تجاه العالمين العربى والإسلامى، من استراتيجية التصادم فى فترة الرئيس جورج بوش إلى التصالح والتلاقى فى الفترة المقبلة. ولقد كان انتخاب أوباما نفسه رسالة مهمة وجهها المجتمع الأمريكى إلى العالم ككل والعالمين الإسلامى والعربى خصوصاً، إذ إن انتخابه يشير الى أن الأغلبية الصامتة فى المجتمع الأمريكى ترفض التحيز العنصرى والعرقى أو الثقافى أو الدينى. لكن استراتيجية الانفتاح الأمريكى لابد أن تجد أمامها تحركاً مصرياً وعربياً وإسلامياً مناسباً لكى تحقق الأهداف المرجوة من كلا الطرفين. وعلى حين انشغل البعض بالكتابة عن أن اختيار القاهرة يمثل نصراً سياسياً لمصر، كما ركز البعض على ما يمكن أن يأتى به خطاب أوباما من جديد فى قضية الشرق الأوسط – خصوصاً حقوق الفلسطينيين - فإن الموقف يبدو أكثر اتساعاً وعمقاً من هذا. لقد كانت صدمة المجتمع الأمريكى بأحداث 11 سبتمبر 2001 أكثر مما يتصوره البعض، ولقد انطبع فى عقل كل رجل وامرأة فى المجتمع الأمريكى أن هناك خللا فى العلاقات مع العالم الإسلامى أدى إلى هذه الأحداث المأساوية. وذهب التحليل المعادى للعرب والمسلمين إلى أن ما حدث هو امتداد للحقد المتوغل فى هذه المنطقة ضد الرخاء الأمريكى والنجاح الأمريكى، بينما راح المحللون الموضوعيون يتحدثون عن فرصة تاريخية ضاعت على أمريكا منذ حوالى خمسين عاماً لم تدرك فيها أبعاد الموقف العربى والإسلامى من الدور الأمريكى العالمى، وأن على أمريكا أن تعيد النظر فى مواقفها السياسية والثقافية من هذا العالم الإسلامى. وكانت فترة الرئيس جورج بوش تعبيراً عن الصدمة الأولى، فكانت التحركات العسكرية التى تعكس التبسيط الأمريكى المخل للأحداث، فهناك أعداء ينبغى التعامل معهم عسكرياً، وهناك أصدقاء ينبغى مساندتهم. لقد سيطرت على الإدارة الأمريكية السابقة مفاهيم أن العالم العربى لا يفهم غير القوة والمال، وكانت الاستراتيجية الأمريكية فى هذه المرحلة تتحرك بسطحية شديدة فى التعامل مع قضايا سياسية واقتصادية وثقافية معقدة. من هنا يجب أن نفهم أن مبادرة الانفتاح الجديدة التى يمثل خطاب أوباما انطلاقاً وبداية لها – هى من نوع جديد – تمثل مرحلة أكثر عمقاً ونضوجاً من فترة السنوات الثمانى السابقة، ولكنها لم تترك الأهداف الرئيسية للاستراتيجية الأمريكية وهى الحفاظ على الدور الأمريكى فى المنطقة، التلاقى مع الشعوب والمجتمعات والمساعدة على الانفتاح السياسى والاقتصادى، مع الحفاظ على حد أدنى من العلاقات الودية مع الأنظمة، أى أنها تعنى العمل مع الأنظمة وليس رغماً عنها. وعلى حين تتركز تطلعات الرأى العام العربى على ما يمكن أن يقدمه أوباما كرئيس للولايات المتحدة فى قضية الشرق الأوسط. فإن المبادرة الأمريكية تقدم تحولاً أوسع وأكثر عمقاً، وهو ما يجب الاستفادة منه فى الجانب العربى لتغير الاوضاع الحالية غير المواتية فى السنوات الماضية. فلقد تحولت منطقة أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدة إلى مناخ غير ودى تجاه العرب والمسلمين، ورغم أن التعامل مع الجاليات من أصول عربية وإسلامية لم يتأثر بشكل كبير ألا أن التأثير الأكبر كان على المواطنين العرب والمسلمين الذين يزورون أوروبا وأمريكا الشمالية إذ أصبحت تأشيرات الدخول صعبة والالتحاق بالجامعات غير سهل، والحصول على أى وثائق، ومنها رخصة قيادة السيارات، غير ممكن، بل وصل الأمر إلى التشكك فى الجمعيات الأهلية والأعمال الخيرية والتوجس من أى تجمع عربى أو إسلامى، والتخوف من الشباب العربى الإسلامى. هذا المناخ غير الودى الذى نما بعد مأساة 11 سبتمبر 2001 عمقته تطورات تالية من الطرفين العربى والأمريكى خصوصاً ما حدث من مأساة فى حرب العراق. من هنا أهمية الاستفادة من نقطة التحول التى يمثلها خطاب باراك أوباما واهتمام الإدارة الأمريكية ببدء مرحلة جديدة مع العالمين العربى والإسلامى. فبالإضافة إلى المبادرات الرسمية التى قدمتها مصر والدول العربية فإن المجتمع المدنى، ممثلا فى قادة الرأى والاقتصاد وفى المؤسسات الإعلامية والتعليمية والجمعيات الأهلية، يمكنها أن تطلق مبادرة لتغيير هذا المناخ غير الودى الذى يسود أوروبا والولاياتالمتحدة نتيجة أحداث السنوات الماضية، ثم بناء روابط بين المجتمعات تعمق العلاقة بين مصر والعالم الإسلامى من ناحية والمجتمع الأمريكى من ناحية اخرى. وتتركز هذه المبادرة فى عاملين أساسيين، أولهما أن المجتمع الأمريكى والغربى عموماً مجتمعات مفتوحة وبالتالى يمكن التواصل مع المؤسسات التعليمية والثقافية والاقتصادية والجماهيرية فيها بدون عوائق وثانيهما: أن هناك رغبة حقيقية لدى المجتمع الأمريكى والغربى فى التعرف على المجتمعات العربية والإسلامية. وأود أن أذكر أنه فى أعقاب حرب ، تبنى وزير الخارجية الأمريكى حينذئذ هنرى كسينجر، نظرية بناء خطوط التواصل linkages مع المجتمعات العربية لكى يجعل من الصعب العودة إلى الصدام بين أمريكا والعالم العربى. إذ تقوم على فكرة بناء شبكة من المصالح المشتركة بين المجتمعات العربية والأمريكية تجعل العودة إلى الصدام غير محتمل. ويمكن استخدام هذه الاستراتيجية الآن بشكل عكسى لتوثيق العلاقات بين المجتمعات والتخفيف من المناخ غير المواتى الذى خلقته أحداث السنوات الماضية. إن المبادرة المصرية، التى نأمل أن تتبعها خطوات مماثلة من دول العالم الإسلامى، يجب أن تتبنى ثلاثة أهداف: أولاً: أن تحقق درجة أعلى من المعرفة لدى المجتمع الامريكى بالثقافة العربية والاسلامية، وتجعل هذه المعرفة لها صفة الإنسانية وليست معرفة مبنيه على ما يذكره الإعلام من الجوانب السلبية أو الحوادث أو الإرهاب، وعلى الجانب الآخر أن ندعو المجتمع الامريكى أيضا إلى التعريف بنفسه لدى الرأى العام المصرى والعربى من خلال برامج تقافية وتعليمية واجتماعية مفيدة للطرفين. ثانياً: أن تشترك مؤسسات المجتمع المدنى فى وضع خريطة للمؤسسات الأمريكية المماثلة والتحرك لإيجاد برامج مشتركة معها لدعم الأواصر بين المجتمعين ولتعميق الاستفادة المتبادلة. ثالثاً: أن يشترك مجتمع رجال وسيدات الأعمال فى برامج تعمق التعاون الاقتصادى والثقافى بين الطرفين بحيث يخرج عن المجالات التقليدية التى تتركز عادة على العواصم الرئيسية بنيويورك وواشنطن وشيكاغو فى الولاياتالمتحدة، والقاهرة والإسكندرية فى مصر، لكى تشمل أيضا التعامل مع حكام الولايات والقيادات المحلية ورجال الأعمال فى الولايات الاخرى وفى محافظات مصر. ولقد رحب عدد من حكام الولايات فى لقاءاتى معهم أثناء جولة لإلقاء المحاضرات بالولاياتالمتحدة قبل الانتخابات بالتعاون مع المؤسسات والمجتمعات العربية والمصرية. رابعاً: تنظيم برنامج رمزى باستضافة عدد من الشباب الأمريكى كل عام للتعرف على الثقافة المصرية والعربية، ليتحولوا بعد هذه الزيارة الى وسطاء بين المجتمعين لتعميق التفاهم المشترك. ويحتاج تحويل هذه الأهداف إلى خطوات عملية الى دراسة متأنية من مؤسسات المجتمع المدنى. إن المبادرة الأمريكية التى يرحب بها الجميع يجب أيضا أن تقابلها مبادرة مصرية وعربية وإسلامية لنتلاقى مع المجتمع الأمريكى، كما أن هذه فرصة ذهبية لتغيير المناخ وطبيعة العلاقات بين المجتمعات الغربية والإسلامية، فيجب الاستفادة منها وعدم خسارتها كما حدث لنا فى أعقاب انتصار أكتوبر، وعلى حين أن مؤسسات المجتمع المدنى لها الدور الأساسى فى هذا فإن المنظمات الإقليمية مثل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى يمكن أن يكون لها دور فى تطوير هذه المبادرات على المستوى الإقليمى.