(1) هل يمكن أن يعيش المرء بدون التواصل مع خبرات الآخرين سواء مع من يشاركونه العيش المشترك أو يعيشون فى مجتمعات أخرى.. هل تستقيم الحياة بغير الاطلاع على تجارب الآخرين.. هل يمكن أن يكتفى كل منا بما لديه من خبرات أو أفكار بغير تدعيم وتطعيم بالجديد الذى يظهر هنا أو هناك.. هل يمكن أن يعيش كل إنسان مع ذاته، أو بحسب لغة شباب هذه الأيام «يعيش مع نفسه»،مستغنيا عن الآخرين. تدور هذه الأسئلة حول تلك العلاقة المركبة بين الذات والآخر على كل المستويات: الفردية،والمجتمعية،والدولية.فالذات الطبيعية لا يمكن أن تعيش بمعزل عن الآخرين.. ومهما كانت هذه الذات ثرية بالخبرات والأفكار والإنجازات فإننا نجدها نهمة للاطلاع والتعرف والاحتكاك واختبار ما لديها واكتشاف ما لدى الآخرين ومن ثم التقدم.. وعلى العكس بمقدار ما تكون الذات منكفئة على نفسها ولا ترى إلا إياها بمقدار ما تكون منغلقة وتعكس خوفا من الآخرين حتى لو اتشح هذا الانغلاق بالتحدى فيكون مصير هذه الذات التراجع والنكوص.. إن استمرار الذات - أى ذات :الفردية والمجتمعية والحضارية - فى الوجود يعتمد إلى حد كبير على انفتاحها على الآخر.. ذلك لأنه بخروج الذات من دائرتها لاكتشاف الآخر، إنما يترتب عليه إعادة اكتشاف نفسها.. فالذات لا يمكن أن تكون ذاتا إلا بوجود الآخر.. ويعتبر الحوار هو الوسيلة الرئيسية لتحقق هذا التواصل بين الذات والآخر شريطة أن يقوم على «المواطنة» إذا ما كان الحوار حواراً بين أبناء الوطن الواحد وعلى «التكافؤ» إذا ما كان الحوار عابرا للحدود. (2) فى هذا السياق انطلقت من على أرضية التكافؤ سبع جولات حوارية مصرية ألمانية منذ العام 2003..وهو الحوار الذى نظم بالشراكة بين الأكاديمية الإنجيلية فى لوكوم/هانوفر بألمانيا ومنتدى الحوار بالهيئة القبطية للخدمات بمصر، وضم كوكبة من مثقفى مصر( بكل ألوانهم الفكرية والسياسية) وألمانيا.. وقد كانت لى فرصة المشاركة فى جولاته الأربع الأخيرة محاورا ومقدما لأوراق..وبداية هدفت هذه الجولات الحوارية إلى: دراسة الأسباب الثقافية والاجتماعية التى تسبب التوترات المجتمعية فى كل من المجتمعين المصرى والألمانى، بناء الجسور بالثقافة وتبادل الخبرات، تقديم نموذج إيجابى فى الحوار بين الثقافات، تناول قضية التكامل المجتمعى لكل المواطنين على اختلافهم، تصويب الصور النمطية التى يشكلها كل طرف عن الآخر وليست صحيحة، وحول هذه الأهداف نوقشت قضايا:العلاقة بين الدين والدولة، والدولة والمجتمع المدنى، والهوية والتنوع، وتمت مقاربة الكثير من المفاهيم والإشكاليات مثل:التحديث /الحداثة، والتكامل /الاندماج المجتمعى، والمواطنة، والعلمنة وحدودها...الخ، فى كل من مصر وألمانيا... وتم رصد المخاوف والمعايير المزدوجة التى لدى كل طرف والتى تبلورت لأسباب متعددة.. بيد أن تكرر الحوارات قد أرسى تقليدا حميدا فى أن من قواعد الحوار الإيجابى ومن ضمانات استمراريته بشكل صحى هو أن يمارس كل طرف النقد الذاتى كسبيل وحيد لأن تكتشف الأطراف الحوارية نفسها وتتفاعل بصدق مع بعضها البعض بدون أوهام عن الذات غير صائبة.. تم هذا فى سياق كونى سادت فيه الشكوك بين الثقافات ومالت الكتل الحضارية إلى الصدام أكثر من الحوار.. بيد أن ذلك لم يمنع من استمرارية الحوار وأن يتيقن المتحاورون أن الجدية فى مناقشة القضايا الملتبسة والتى يظن البعض أنها محسومة حاجة ضرورية تتيح التجديد الحقيقى. (3) ومن أهم ما اتسمت به الحوارات هو الحيوية والحرية.. الحيوية من حيث طرح الأفكار من زوايا عدة - الثقافية والدينية والتاريخية والسياسية ،.. والحرية من حيث التحرر من القيود والتابوهات والإكليشيهات والسماح بقبول كل الاجتهادات باعتبارها تأويلات جديرة بالتأمل والدراسة والفهم.. لقد حاولت الجولات الحوارية المتعاقبة أن تتناول كل قضية من عدة جوانب وأن تدرسها فى سياقها الألمانى والمصرى.. وهو ما أفاد كثيرا فى رؤية مسيرة التطور فى كل من الحالتين كذلك ما هى المحفزات والمعوقات التى تتعرض لها عملية التحول فى كل من التجربتين.. إن الجولة الأخيرة التى عقدت فى ألمانيا (من 3 إلى 10 مايو الحالى) بما ضمت من ندوة حول التنوع الثقافى، ولقاءات، وحرص المتحاورين على إصدار وثيقة حوارية ترصد حصيلة الحوار على مدى جولاته السبع- لجديرة أن يطلق حوار داخلى حولها وربما تكون الوثيقة بعد إقرارها البداية الطبيعية لهذا الحوار.