هى الصدفة تلعب دورها معى كعادتها على الدوام، ففى الوقت الذى زرت فيه (إيرينا) فيرونا و(كولسيوم) روما، شاهدت بالصدفة فيلم (gladiator) ومشاهده المفعمة بالعنف والقتل التى تدور بكل بشاعة على أرض (الإيرينا) الرومانية.. وكنت قد شاهدته سابقاً وأنا أغمض عينا وأفتح الأخرى، تجنباً لمناظر العنف والدم والأوصال المتقطعة ولا أزال.. ولكنى وبعد احتلال العراق وما أصبحت تتلذذ به الفضائيات من نقل مباشر وغير مباشر لصور المقابر الجماعية والقتل والجثث الممثل بها استعنت بما أملك من رباطة جأش وهمية لم تستطع أن تخفف من أصداء النبض المتصاعد خوفا وكأنه صوت مطارق أن أشاهد الأحداث الرئيسية دون النظر إلى تفاصيل القتل، لأذهب فى مقارنة سريعة بين أحداث دارت قبل الميلاد خلال حكم الإمبراطورية الرومانية وأحداث لا تقل بشاعة تدور رحاها يوميا فى عالمنا العربى.. وبين (أرينات ) أصبحت أطلال تاريخ، واستبدلت مهرجانات القتل فيها ومصارعة الحيوانات الضارية والأسود بمهرجانات موسيقى وأفراح وقوافل سياحة.. فى حين أصبحت شوارعنا ومدننا وأماكن أعمالنا بل وحتى ملاعبنا (أرينات) عنف ومجازر ومعارك.. وإن كانت مهرجانات القتل قديماً تدور داخل الأسوار فقد أصبحت، اليوم، تدور خارجها.. وإلا ماذا نسمى ما حدث وما يحدث فى مباراة الجزائر ومصر؟ كمثال لآلاف المباريات بين الأشقاء.. وما يواكبها من تصعيد إعلامى وإرهاب وتهديد واعتداءات وما يسحبه ذلك من تدهور فى العلاقات السياسية والدبلوماسية والاجتماعية، متناسين أهم مصطلح إنسانى وأخلاقى يسمى (العيب) هذا إذا استثنينا روابط الأخوة والعروبة والقومية المزيفة.. فهل لنا أن نجد هذا المصطلح بين صخب وفوضى العنف الدائر على ساحات (الكولسيوم) العربى وما تتفرع منه من (إيرينات) تقام فيها طقوس التعذيب والقتل بين الأشقاء بتحريض ممن استعبدتهم القوة وشهوة الدم وسادية المزاج، ومتفرجين يدفعون من جيوبهم وكرامتهم ثمن ما يشربونه من أنخاب الفرجة على قطعان المستعبدين، المنطلقين من بوابات الذل يتخبطون ببعضهم البعض، مقنعى الوجوه والعقل.. لا يعرف الابن أباه ولا الشقيق شقيقه.. منتظرين إشارة من إبهام الرحمة بالموت أو العفو.. كما يفعل القياصرة فى عبيدهم ومملوكيهم خلال مهرجانات القتل العشوائى فى قتالهم مع بعضهم البعض أو مع ما يطلقونه عليهم من أسود ونمور.. (الإيرينات) العربية مفتوحة على مصراعيها والسماسرة لا يشبعون.. والأرض لازالت عطشى.. وأسواق الأسلحة الملوثة بالحقد مفتوحة والمهرجانات مستمرة وأهمها المهرجان الأكبر فى (الإيرينا) العراقية الكبرى وفروعها فى أبوغريب وآلاف السجون.. تليها اليمن والسودان وغزة ولبنان..أما (إيرينات) القتل النفسى والمعنوى فمفتوحة على جميع المستويات.. والتذاكر بالمجان.. فملايين تصلب كرامتهم على خشبة الحاجة والعوز.. وملايين تشنق إرادتهم على مشانق الغرور والتعالى.. وملايين تغلق أفواههم بأقفال الخوف.. وملايين تلتهم مقدراتهم وحقوقهم أفواه الجشع.. وملايين تتمطى مشاعرهم على أرائك التغييب تأكل وتشرب وتنام (ولا حياة لمن تنادى).. وتظل الأبصار شاخصة تنتظر المعجزة.. (سبارتكوس) عربى أو (ماكسيماس) الجنرال البطل ذو الإرادة التى تحدت الموت والسم ودفعته للقتال حتى انتصر على الظلم وسلم صك الحرية لمن يستحق. إليك... نبأنى طيفك المتأرجح على ذراعى القدر غضباً.. أنك ستفقأ عين الشمس بسيف الغدر.. تصفع وجه القمر بكف الليل.. تحرق الفجر بأنفاس الهجر.. تشرّع بوابات الريح الصفراء.. تقتلع جذور الخيال المغروسة فى أرض الوهم.. تبعثر ورود الحلم.. تغتال نوارس الشطآن.. تغتصب بكارة الأزمان تحمل الشوق على محفّة الهوان.. نبأنى طيفك المفترّ عن بسمة ضجر وومضة حذر أنك ستقرع الأجراس، معلناً قيام ساعة الرحيل إلى اللا مكان واللا حب واللا حياة.. نبأنى طيفك الشمعى أننى قاب قوسين من مفترق طريق.. بين موت حلم وولادة أمل.. بين نهاية قصة وبداية رواية.. بين ذوبان وهم وانعتاق حقيقة.. بين سقوط (فويرس) وانطلاقة فارس.. نبأنى طيفك الجليدى عن موسم قحط ثلجى تغاث به الأشواق العطشى لموجة دفء.. تستنطق خرسك السرمدى.. نبأنى طيفك الشاحب كالموت عن وداع أبدى ومرثية بلا دموع.. نبأنى طيفك، سيدى.. وليتها أضغاث كابوس ورعشة خوف. وسؤال: أين كنا فى عصر (إيريناتهم) وتخلفهم الإنسانى.. وأين أصبحنا الآن فى عصر نهضتهم وتطورهم الإنسانى واهتمامهم بآدمية وكرامة شعوبهم؟! مجرد سؤال.