انها فعلا سينما الحقيقة، ليست السينما التسجيلية وفقط، ولكن أيضا أفلام التحريك التي تشبه فن الكاريكاتير في الجرأة ووضوح الفكرة، والأفلام الروائية القصيرة التي تحمل حماس وحيوية الشباب ورؤيتهم الجديدة الصادقة للعالم ومشاكله، وفي هذه الدورة من مهرجان الاسماعيلية الدولي ظهر العالم وكأنه يحاول البحث عن ذاته ويسعي لإيقاظ ضميره، وفي عدد من الأفلام اقتحم شباب العالم قضايا العنف والحروب والصراعات العرقية، ولكن بلغة سينمائية رقيقة، ومعالجة انسانية وفنية بعيدا عن مشاهد الدم والقتل. ففي الفيلم الفلسطيني "أنا غزة" رصدت المخرجة أسماء بسيسو تداعيات الحرب الإسرائيلية علي غزة من خلال معالجة مثيرة للجدل اعتمدت فيها علي رؤية الطبيب النفسي فؤاد بسيسو وعلي عدد من الشهادات الحية التي أكدت أن المعركة في غزة هي بالأساس معركة حياة ولم يقترب الفيلم من ثنائية حماس وفتح ولم يدخل في متاهات الصراع الفلسطيني الفلسطيني وركز علي بشاعة الحرب من خلال التشوهات التي أصابت البشر ودمرت المنازل وجرفت المزارع وأسست لنوع من الهلوكوست الفلسطيني الذي يهدد فكرة تحقيق أي صيغة للسلام في المنطقة، وهي النغمة الهادئة التي عزفها فيلم "ليش صابرين" للمخرج مؤيد عليان الذي يصور بشاعة الاحتلال الإسرائيلي بعيدا عن صور الدبابات والانفجارات والرصاصات المطاطية من خلال حكاية حب شاب وفتاة فلسطينيين يحكمهما المجتمع الفلسطيني الشرقي بقواعده وأعرافه حيث الأب يفرض علي الفتاة أن تتزوج من ابن عمها والشاب صاحب المبادئ الذي يرفض العمل في المهن الدنيا لدي اليهود، كما يحكمهما الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يرفض جنوده أن يعيش الشاب والفتاة قصة حبهما في أحد الحدائق ويفشوهما فتشعر الفتاة بعدم الامان ويشعر الشاب بالعجز عن حماية من يحب، كأنهم صورة مصغرة لفلسطين المنتهكة وحالات العجز العربي عن نجدتها وحمايتها وفي النهاية تستسلم الفتاة للمجتمع الذي تعيش فيه وتقرر العودة علي أبيها بعد أن كانت تفكر في الهرب بعيدا والعيش مع من تحب. ففي الفيلم السوداني التسجيلي القصير "54 دقيقة" "دايرين السلام" أو "البحث عن السلام" اقترب المخرج إياد الداود من قضية إقليم دارفور السوداني، ولكن من خلال رؤية انسانية بعيدة عن الصراع المسلح بين الفصائل، حيث اقترب من حياة الناس البسطاء بعيدا عن السياسة وتعقيداتها، وكذلك شاهدنا صورة مختلفة لمأساة أفغانستان من خلال فيلم نسائي سياسي بعنوان "المكان الذي ينادي روحي" للمخرجة الأفغانية ألكا سادات والتي تعتبر حياتها نفسها وثيقة تحد للظروف الصعبة التي عاشتها تحت حكم حركة طالبان حيث لم يكن بمقدورها أن تذهب إلي المدرسة فعلمت نفسها تعليما ذاتيا، والفيلم يتحدث عن قصة الناشطة الأفغانية ماريا بشير التي تعتبر أول سيدة أفغانية تعمل في مجال مكافحة العنف ضد النساء من خلال تقديم لعدد من النماذج التي تعرضت للعنف البدني والنفسي كما تقدم مشاهد مسجلة لحالات إعدام في الشارع. ومن أفغانستان إلي العراق قدم لنا المخرج حسيني جيهاني رؤية مكثفة جدا لمشكلة العنف في مدينة السليمانية في شمال العراق وذلك من خلال فيلم "التصوير بواسطة النار"وهو فيلم تسجيلي قصير لم يتجاوز زمن عرضه دقيقة واحدة يبدو خلالها المصور أرام علي وهو يلتقط صورا للنيران المندلعة في الليل وبعدما يدوي صوت انفجار هائل يتوقف المصور للحظة قبل أن يعاود عمله من جديد. وفي فيلم "اسيتا خلف الحاجز" -تسجيلي قصير 54 دقيقة- الذي أخرجه الفلندي خوان رينا بمساعدة المخرج الزئيري رواندي الجنسية إريك كابيرا، قدم المخرجان وثيقة علي المذابح التي حدثت في رواندا عام 1994عن طريق الصحفي البريطاني نك هيو الذي قام بتصوير حادث قتل اثنين من الروانديين بطريقة بشعة وقرر بعدها ان يكتشف حقيقة ماذا حدث للروانديين. وفي الندوة التي أعقبت عرض الفيلم قال كابيرا :إن تصوير هذا الفيلم كان صعبا جدا واحتاج لعشر سنوات حتي أخذنا القرار، خصوصا أنني ذهبت للبحث عن الضحايا والقتلة لإقناعهم بالظهور في الفيلم والحديث عن تاريخ الصراع. وأضاف كابيرا: إن ما قدمه الفيلم ليس بغريب، ففي رواندا الآن يعيش الضحايا والقتلة جنب إلي جنب، خاصة وأن الفيلم لم يستهدف محاكمة أحد، فالجمع بين القاتل والضحية هو بمثابة لمحاولة لتصفية الصراع بين الطرفين لكي يتمكن المجتمع مرة أخري أن يسير. وفي القارة الإفريقية أيضا ظهرت قضية الحرب في لييبريا من خلال فيلم "طريق الخلاص" للمخرج الأمريكي جوناثان ستاك وهو مأخوذ عن رواية للكاتبة والمخرجة الليبيرية إلما شو التي تنتصر لفكرة الخلاص بعيدا عن الانتقام من خلال تحقيق الذات. وفي مجال التحريك ظهرت الحرب في معالجتين متميزتين لمجموعة من المخرجين الفرنسيين الفيلم الأول بعنوان "لو كنت تريد الحرب" والذي يدور في كوكب خارجي بعيد عن الأرض التي أصابها البؤس ودمرتها الحروب، ولكن الإنسان الذي يعشق الحرب انقسم علي الكوكب مرة أخري وتحارب حتي دمره، ليكشف أن الإنسان يفضل الحرب علي السلام. والفيلم الثاني بعنوان "في الرأس" يقدم معالجة ساخرة عن شاب يترك حبيبته ويدخل الجيش و يحلم بالفردوس ويصاب في إحدي المعارك برصاصة في رأسه، ولكنه ليس معه إثبات ويزرعون في رأسه كاميرا ليصور مقتله ولكن في كل مرة يعود فيها تصيب الرصاصة رأسه فتحطم الكاميرا، وكأنه في رحلة عبثية لا تنتهي تؤكد لنا أن الحرب ليست الطريق الوحيد إلي الفردوس.